رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

صورة حزينة للمطر

جريدة الدستور



أتذكر هذا اليوم جيدًا، كنت حينها أبلغ من العمر تسع سنوات، وكان شهر يناير قد اقترب من الانتهاء، فى ذلك اليوم كان الجو فى حالة بالغة من السوء، تنذر بسقوط المطر، السماء ملبدة بغيوم كثيفة تحجب زرقتها عن الأعين، وتلف المكان منذ الصباح بغلالة فضية توحى بالغروب، وتعطى إحساسًا غريبًا ممزوجًا بالضيق والحزن، كان صوت الرعد يزلزل ديمومة الألفة والهدوء، والبرق يومض بالرهبة والخشوع، ومع انعدام النسيم أصبح الفراغ كأنه مجرد من الهواء، وانطلت الأصوات والحركات بوهم الصمت والسكون، فى حين تغلغلت البرودة القارسة داخل الأشياء، والشمس التى كانت بالأمس ترعانا أصبحت ذكرى باهتة.
بيد أنه لم يتوقع أحد من أهل القرية أن يكون المطر بهذه الغزارة، حيث جاء سقوطه فى أعقاب فجر اليوم التالى، بعد أن مر النهار المختنق باضطراب الشتاء، بدا أول الأمر خافتًا، ثم أشتد بجنون، ظلت قطراته تتتابع بقوة فوق سطح البيت محدثة صوتًا مقلقًا أثار فى نفسى الترقب، وازدادت يقظتى، حيث كنت قد استيقظت من نومى على ذلك الصوت، لكنى لم أبرح الفراش، بل ظللت ساكنًا تحت الغطاء الثقيل، الذى كنت أتدثر به أنا وأخى الصغير، الذى كان يغط بجوارى فى نوم عميق، كان تيار الكهرباء قد انقطع عن القرية والقرى المجاورة لها، وذلك منذ بداية سقوط المطر بغزارة، حيث غرق كل شىء فى ظلام كثيف، أجلت بصرى عدة مرات فى أركان الغرفة، فلم أستطع أن أحدد معالم أى شىء، وأيضًا قد غرقت رغباتى وتلاشت تحت وطأة الظلام والبرد الشديد، فكنت راغبًا فى رؤية ومعرفة ما حدث جراء المطر، وفجأة شعرت بحركة خفيفة بجوارى على الفراش، فاستدرت بوجهى ناحية أخى وشعرت باستيقاظه، كنت أتوق إلى أن ينقشع الظلام الثقيل؛ لكى أعرف ما هو الانطباع المرسوم على ملامح وجهه، بعد أن تيقن من سقوط المطر بالخارج، داخلنى شعور عميق بالاطمئنان والونس، أسفر عن حديث مع أخى قام على الهمس والمناجاة، استمر إلى أن تسرب الضوء الأول من الصباح - مغسولًا بماء المطرـــ إلى داخل الغرفة خلال الشقوق الضيقة التى كانت تتخلل «ضلفتى» النافذة المطلة على الخارج.
كان الظلام قد انجاب قليلًا فبدت معالم الغرفة بشكل جديد، يكتنفه قليلٌ من الغموض، بعد أن تنبهنا لضوء الصباح، كنت قد غبت عن الزمان والمكان، فأدركت بعد وقت أننى كنت غارقًا فى سبات عميق، وقد انتابنى إحساس بالضيق غائرًا فى نفسى لغياب الشمس منذ أمس، بعد أن فتحت «ضلفة» واحدة من النافذة بشكل موارب، رأيت بالخارج ضبابًا كثيفًا ترى منه الأشياء بصعوبة، أبواب البيوت مغلقة على ما فيها من كائنات، ما عدا النوافذ والشرفات، فقد أطلت منها الرءوس بحذر لترقب سيل السماء، كانت الوجوه التى ترى من وراء مكامنها متشحة بالبلاهة، ويكلل محياها الاستسلام والخنوع، مضى وقت ومر وقت إلى أن اضطر الناس لفتح الأبواب والخروج لمنع المياه من دخول البيوت، التى كانت منخفضة عن سطح الأرض، حيث قاموا بتجريف السطح إلى أعلى أمام عتبة كل بيت.. غادرت الغرفة متوجسًا بعد أن دبت الحركة فى الأركان الصامتة صاعدًا إلى السطح.. كان المطر ما زال يتساقط بقوة بينما كنت أحاول النظر لأعلى بصعوبة، فلم أر غير البياض الذى كان يشع فى النفس الوهن والضيق. ورويدًا بدا كل شىء يرى بوضوح بعد أن ألفت عيناى الضباب، فرأيت واجهات البيوت المجاورة كالحة مبللة والأرض زلقة تكثر فيها الحفر المطمورة بالمياه، كانت فى وسط الباحة التى تحيط بها البيوت بشكل شبه دائرى، بركة صغيرة بدا لون مائها أصفر غامق، تطفو القاذورات على سطحها. وكانت أغلب الأشياء الموجودة على سطحنا والأسطح المجاورة مبتلة وكيانها يقاوم بصعوبة أمام المطر، حيث كانت الأسطح مليئة بصوامع الغلال المبنية من الطين المخلوط بروث البهائم، وكان أمام كل فرن تتكدس العيدان اليابسة من الحطب والذرة، وفى الزوايا تتراكم الكراكيب، أخذت وقتًا طويلًا فى النظر إلى قمة الجبل الذى كان يقع على شمال القرية، وبعيدًا بمسافة كبيرة عن الحقول، حيث بدا وكأنه يمتد بلا بداية ولا نهاية، فيما كانت قمته ذات لون أحمر قاتم بفعل المطر، مضى وقت ليس بقليل وأنا على السطح، ابتلت فيه ملابسى بالكامل التى التصقت بجسدى فأصابتنى رعشة اصطكت لها أسنانى وارتعشت أطرافى؛ فهبطت أدراجى مسرعًا خائفًا من أن ترانى والدتى.. كان المطر ما زال ثائرًا ولاشىء ينبئ عن توقفه، بل السماء الداكنة كانت تبشر بالمزيد غمرت المياه معظم البيوت المنخفضة عن سطح الأرض، بعد أن خابت كل محاولات أصحابها، كانت القتامة تقطر من كل شىء، والوجوه تطفح بالوجوم والقلق، والإرادة مكبلة بنوبات واهنة، نزلت الدرج إلى الدور الأرضى، كان بيتنا واسعًا وله عتبة عالية أمام بابه الكبير، خلف البيت كان يوجد حوش مسقوف بأعواد البوص، تربى فيه الماشية وبعض الطيور الداجنة.
وجدت جدى جالسًا على الكنبة المتهالكة التى على يمين الداخل فيما وراء الباب. كان مثبتًا فوق رأسه المعمم مصباح كيروسين مشتعل الفتيل، فيما يتراكم بأعلى لهبه دخان أسود، فأصبح البيت مسربلًا فى غلالة من النور الباهت، كانت نظرات جدى غير مكترثة بوجودى كأنه ينظر إلى شىء، وذلك كان على غير ما عهدته به، حيث كان عندما تقع نظراته علىَّ يتهلل وجهه وتعلو شفتيه الغليظتين ابتسامة واضحة براقة، ولكنه اليوم عابس الوجه، مزموم الشفتين، والاضطراب يشع من عينيه، تراجعت بعدما كان فى نيتى أن أتقدم وأجلس إلى جواره، لم أكلف نفسى التكهن عمّا به، اتجهت نحو الباب المغلق لأزيح المزلاج وأزلف إلى الخارج، عندها نهرنى بشدة قيدت يداى التى كانتا تهم بفتح الباب ثم انسحبت منكمشًا ومضطربًا واجف القلب نحو الحوش الذى قبل أن أدخله سمعت أطراف حديث متبادل بين والداى، كانت أرض الحوش يغطيها الوحل فجاءت خطواتى مهزوزة ومرتجفة حتى وصلت إليهما. كان الدجاج والبط الصغير منكمشًا فى أحد الأركان، نظرت إلى أرجل البهائم فوجدتها غائصة فى طبقة كبيرة من الوحل متعبة ترتجف من البرد، كان والدى فى حيرة من ذلك الأمر، حيث كان من عادته أن يخرج البهائم من الحوش كل صباح متوجهًا بها إلى الحقل، فهناك المرعى والدفء، أمسكت أمى يدىَّ برفق، فخرجت معها من الحوش بحذر، حيث كانت قد أعدت وجبة الإفطار، التى كنا قد تأخرنا عن تناولها، كانت بى رغبة فى الخروج من البيت فأخذت فى طلب الذهاب إلى المدرسة، ولكن علمت أنه تم إلغاء اليوم الدراسى بالفترة الصباحية والمسائية، فى تلك اللحظة جفلت القلوب بعدما أعقب الصوت المدوى بالخارج، صرخة امرأة يشتعل صدرها بالخوف المباغت، لقد تساءل كل المتوارين وراء الأبواب المغلقة عمّا حدث.
عندما وقفت إلى جوار أمى بمدخل البيت كان أبى بدوره قد ترك الحوش وذهب للوقوف بجوار جدى، الذى كان قد اعتلى عتبة الباب، كان الغبار الكثيف يملأ الجو، حيث غابت فى غلالته قطرات المطر بلونها الماسى، ثم بعد قليل تلاشت ذرات الغبار وظهر لكل عين «بيت اليمنى» القديم والمهجور بواجهته المنهارة، كان البيت مكونًا من دورين، بالطوب الأخضر، الذى كانت الشروخ تضرب جدرانه بقوة، وكانت جميع حجراته منزوعة الأبواب والشبابيك، كنا نحن الصغار نتخذه مكانًا آمنًا لمغامراتنا الطفولية، وفيه خلقنا الأساطير الساذجة عن الحياة والموت والجنس، بمزج أوهامنا بالثوابت، وفى المساء كانت تأوى إليه الكلاب الضالة؛ كى تريح أجسادها على أرضه المغطاة بالتراب البارد، لم يكن كأى مكان مهجور تتكدس بأركانه القاذورات، بل كانت النساء الساكنة للبيوت المجاورة يعملن على نظافته من حين لآخر، وكثيرًا ما كنا نحن الصغار نساعدهن، بينما لم نكن نعرف سبب اهتمامهن بنظافته، ومنذ مولدى حتى أدركت كل ما يحيط بى من أشياء، كنت أرى هذا البيت على تلك الحال، ولم يجد عليه شىء غير أن الشروخ التى كانت صغيرة منذ سنوات أخذت تتسع وتزداد فى العمق والتفرع دون أن تلفت انتباه النظرات التى ألفته.
أتذكر أن «بدوية» الغجرية، ضاربة الودع، التى لا أصل لها- كما يقولون- كانت تسكن أمامنا فى بيت «اليمنى» والتى طالما نسجت حكايات مرعبة ومفزعة عن أشباح وأصوات وطاويط سوداء وبوم سبحت فى فراغ هذا البيت، غير أن الزمن كان كفيلًا بأن ينسينا إياها، حتى صار مكانًا محببًا إلينا.
عندها تقدمت نحو الأمام تاركًا مكانى بجوار جدى وأبى، غاصت قدماى فى الوحل ولم أشعر بشىء إلا الحزن الذى كان يجرى فى دماء قلبى، فى حين طفر الدمع الساخن بدون إرادة منى فاختلط مع ماء المطر البارد، ومع انهيار البيت انهارت ذكريات سعيدة، فيما تكونت لدى ذكرى حزينة للمطر...