رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أخيرًا تراثنا فى أيدٍ أمينة


مصر الغنية بآثارها وتاريخها.. غنية أيضًا بتراثها الفنى والثقافى.
منذ عشرات السنوات وخاصة السنوات الأخيرة.. نادى الكثيرون بضرورة حماية التراث سواء كان مرئيًا أو مسموعًا أو مكتوبًا، وذهب أغلب الصرخات كالهباء المنثور لم تلق أذنًا مصغية ولا فكرًا مستنيرًا إلا بعد محاولات فردية انتهت إلى صمت كامل عن سرقات بشكل مباشر أو اقتباسات، وضاعت حقوق الملكية الفكرية ربما بمليارات الجنيهات لسنوات طويلة، ومع ما يحدث فى مصر الآن من بناء لمصر النهضة وتأكيد على رسم ملامح لوطن جديد مستقر كان لا بد أن تتصدى الدولة للحفاظ على تراثها.

معظم ما يبث فى قنوات عديدة خارج مصر هو تراث مملوك لاتحاد الإذاعة والتليفزيون المصرى، فتراث الإذاعة منذ الثلاثينيات من القرن السابق وكذا تراث التليفزيون منذ الستينيات وما تلاها كان الأول فى مجاله بالمنطقة ظهورًا وريادة وإنتاجًا.. عشرات الآلاف من الأشرطة التى تحمل برامج وأفلامًا ومسلسلات وأغانى وأحداثًا مهمة كادت تنتهى رحلتها فى مخازن أكلتها الرطوبة والجفاف أو الإهمال أو النقل الخطأ أو إلى مكتبات لسماسرة يتولون نقلها إلى عملاء لهم خارج مصر.
شاء القدر وظروف عملى أن أكون قريبًا من تراث مصر فى أماكن متعددة كانت البداية فى الثقافة وتحديدًا فى الهيئة العامة للكتاب، وكنت ضمن فريق عمل يرأسه د. سمير سرحان وعملت مع أساتذة ومفكرين كبار، كنت أقرأ لبعضهم وأحلم بالجلوس مع آخرين أو إجراء حوار مع أى منهم، وجاءت فرصة العمل لتتيح لى كل ذلك، وأذكر يوم كلفنى د. سمير سرحان كى أذهب إلى مخازن الكتب التابعة للهيئة كى أرى المفاجأة الأولى لى، فتعثرت بمجلة الرسالة التى كانت تصدر فى الستينيات، وكان كتابها الحكيم والعقاد وطه حسين ورشاد رشدى والمبدعون الشباب فى ذلك الوقت الدكاترة سمير سرحان وفوزى فهمى وجابر عصفور ومحمد عنانى، رأيت نسخة كاملة من المجلة.. اختار منها د. سمير وقتها حوالى خمسين موضوعًا من أعداد مختلفة، لكى يصدر أول سلسلتين من مكتبة الأسرة تحت عنوانى «الأعمال الإبداعية» و«الأعمال الفكرية»، ويومها بحثت عن كتب كثيرة فى المخازن وأخرى فى دار الكتب والوثائق التى كانت تتبع الهيئة العامة للكتاب حينئذ، ورأيت كنوزًا من التراث تمتلكها الدولة المصرية ويستفيد منها ناشرون من لبنان وسوريا يطلبون عشرات العناوين ويوزعون آلاف النسخ ولا عزاء للدولة المالكة لحقوق التراث.. وتساءلت يومها عن حقوق الملكية الفكرية وعما تقوم به الدولة لحفظ التراث.. وظللت لمدة أربعة عشر عامًا أعمل فى فريق عمل معرض القاهرة الدولى للكتاب، وكانت آخر دوراته التى عملت بها تضم 11 موقعًا للنشاط الثقافى والفنى تقدم 33 ندوة وإذا كانت كل ندوة أو أمسية تضم ثلاثة من المشاركين فلدينا نحو مائة مشارك يوميًا على وزن الأبنودى وعصفور والعسكرى ونجم ونزار قبانى والبابا والإمام الأكبر وعشرات المفكرين والنقاد الشباب. كل ما قدمه هؤلاء بأمسياتهم الشعرية ولقاءاتهم الفكرية وندواتهم السياسية بقيمتها الفنية والثقافية والتراثية.. كل هذا التراث العظيم انتهى به الحال إلى أسوأ حال من الحفظ والمتابعة واحتفظ التليفزيون المصرى عبر قناته الثقافية بالبعض، وأعتقد أن أغلبه أيضًا قد تلف.. كل هذا التراث بالإضافة إلى عشرات المسرحيات من إنتاج وزارة الثقافة والهيئة العامة للمسرح أو الهيئة العامة لقصور الثقافة حتى إنتاج مركز الإبداع ومسرح الهناجر وحفلات الأوبرا.. هذا التراث لا بد من خطوة هامة للحفاظ عليه وعلى قيمته الفنية والثقافية والمالية أيضًا.
وشاء القدر أن أنتقل من الثقافة إلى الإعلام لأصطدم بالكارثة الكبرى بعد أسبوعين من العمل بحريق صغير فى مخازن الإكسسوار بالطابق تحت الأرضى بماسبيرو.. أنقذت العناية الإلهية مخازن ملابس المسلسلات والفوازير من الحريق وكانت المفاجأة الأولى تبعتها مفاجآت كثيرة عبر عشرة أعوام من العمل بالوزارة.. فها هى جريدة مصر السينمائية التى كنا نراها على شاشات السينما فى الستينيات والسبعينيات ملقاة فى أشرطة وعلب أفلام فى مخازن المركز القومى للسينما وبعضها بالهيئة العامة للاستعلامات، ظلت هكذا، حتى جاء رئيس الهيئة النشط ضياء رشوان ليضع يده مع الوزير أسامة هيكل، رئيس مدينة الإنتاج الإعلامى، ولتبدأ أولى خطوات الحفاظ على التراث المهم بترميمه وتحديثه وإعادة طرحه بما يحمل من أهمية ومن توثيق لأهم أحداث مصر منذ الأربعينيات حتى الثمانينيات وكانت أولى الخطوات الصحيحة على طريق الحفاظ على تراث مصر.
وفى المقابل كانت مكتبات التليفزيون تنوء بحمل الإهمال والسرقة حتى جاء الاتفاق الأخير مع شركة منصة «watch it» وهى شركة مملوكة للدولة تصدت لأكثر المهمات ضرورة وهى حماية التراث، بدأت باتفاق بين الشركة والهيئة الوطنية للإعلام لاستغلال حق عرض تراث الهيئة المرئى والمسموع عرضًا حصريًا على منصتها الإعلامية المصرية، والتى لاقت نجاحًا كبيرًا مع إطلاقها منذ أسابيع.. هذا الاتفاق أو المشروع أعده أيضًا ربما من أهم الخطوات التى تمت مؤخرًا، فهذا لا يعنى فقط حقًا للشركة لاستغلال المواد ولكنه يضعها فى مكانة مهمة للحفاظ على تراث أو تاريخ مصر الإعلامى وإن كان هذا يستلزم إنفاقًا كبيرًا وجهدًا أكبر لترميم وعلاج ما تلف وإنقاذ الباقى من التلف.. مهمة صعبة، لكنها ليست مستحيلة وسوف تعود على الهيئة الوطنية بالكثير أدبيًا وماليًا وسوف تعطى أيضًا للشركة ومنصتها ثقلًا هامًا فى المنافسة مع منصات إعلامية عالمية أخرى.
ما تفعله شركة «watch it» اليوم من جهد للحفاظ على التراث الفنى والثقافى، سواء بحصولها على حق حفظ التراث أرجو أن يمتد إلى الحفاظ على أفلام عديدة مملوكة للدولة أو للأفراد وسقطت فى حق الملك العام.. مع وجود تراث التليفزيون والإذاعة والجريدة الناطقة ومسلسلات الزمن الرائع والجميل وحفلات كبار مطربينا وقراءات أساطين التلاوة، سيكون للمنصة مكان هام فى المنافسة.. هذا عن القديم أما دورها والذى أعلنت عنه مؤخرًا من اتجاه للمشاركة فى الإنتاج السينمائى أو الدرامى، فهو لن يقل أهمية عما تقوم به وإذا كانت الآن تحافظ على القديم فإنها بالجديد ستشارك فى المستقبل.. وإذا كانت المنصة الإعلامية سوف تحقق ذلك أرجو ألا يسقط التراث المكتوب والمطبوع من اهتمامنا وأن نفكر بسرعة فى وسيلة للحفاظ عليه.