رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أين تقف موسكو من التصعيد بالخليج؟


هذا سؤال ربما ينتظر الكثيرون إجابة شافية عنه، أو شبه إجابة إذا كان الأمر يبدو معقدًا ما بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران، وهو كذلك بالفعل. فما بين الحشد العسكرى الأمريكى غير المسبوق فى تلك البقعة الدقيقة، وضغط العقوبات التى جرى فرضها على طهران حزمة وراء الأخرى، حتى بدت الأخيرة تنتظر السقف الذى من الممكن أن تصل إليه إدارة ترامب، خاصة وهى تضفى على تحركاتها والمشهد برمته غموضًا كثيفًا، بأكثر مما يمكن استقراء تمدداته المنتظرة.
وفى محاولة البحث عن ملامح لتلك الاجابة، نشر «مجلس الشئون الدولية الروسى» ويرمز له اختصارًا بـ«RIAC»، وهو أحد أهم المؤسسات الفكرية الروسية ويحظى بمساحة اقتراب مهمة من الرئاسة الروسية - نشر المجلس تقدير موقف مؤخرًا بعنوان «خيارات موسكو فى أعقاب مواجهة عسكرية أمريكية مع إيران»، واللافت أن النشر الأول لهذا التقدير كان بصحيفة «هيرالد تريبيون» الأمريكية، وربما هذا لمغزى يخص كاتبى التقدير أو المركز البحثى، لكنه فى النهاية نُشر بمعرفة المركز الروسى تحت هذا العنوان الكاشف قليلًا للغموض. ولهذا نذهب لاستعراض أهم فقراته وأفكاره التى قرأت أمريكا بعناية، وهذا مؤكد، فضلًا عن نشره فى هذا التوقيت المبكر والفارق من الأزمة التى ما زالت تراوح فصولها الأولى.
فى مقدمة التقدير، بدا هناك حرص على التذكير بمجموعة نقاط جاءت كما يلى: أنه مع تغيير التوترات بين الولايات المتحدة وإيران، إلى ما هو أبعد من خطة العمل الشاملة المشتركة ـ الاتفاق النووى الإيرانى ونحو مواجهة عسكرية محتملة، بات العامل الروسى أكثر أهمية. فسياسة روسيا تجاه الشرق الأوسط تتميز بالأعمال المتوازنة، التى تضمن لها دورًا كقوة توازن حيوية وفعالة. حيث يمكن أن يؤدى سقوط إيران، إلى تقويض قدرة موسكو على تحقيق التوازن فى منطقة الشرق الأوسط. فى الوقت نفسه، حققت روسيا وإيران تقاربًا أمنيًا كبيرًا لمواجهة التهديدات المشتركة، وتكييف الاستراتيجيات من خلال إعادة النظر فى النظام الذى تقوده الولايات المتحدة، بينما سيساعد عدم انخراط روسيا فى القضايا التى تقلق قوى الشرق الأوسط الأخرى، وعلى رأسها الهجوم الذى تقوده الولايات المتحدة على إيران، فى تعبيد الطريق أمام الهندسة الأمنية التى تقودها الولايات المتحدة فى الشرق الأوسط، ما يتيح لواشنطن قوة أكبر. هذه التطورات تفتح المجال واسعًا أمام الكثير من التكهنات حول إلى أى مدى ستنخرط موسكو فى أى مواجهة عسكرية محتملة، بين إيران والولايات المتحدة.
ثم ينتقل التقدير لمنطقة أهم، وهى أن موسكو يمكن أن تستفيد ماليًا من إيران عندما تكون الأخيرة معزولة سياسيًا، وأقل قدرة على التنافس الاقتصادى. لكن الآثار الجيوسياسية الناتجة عن تغيير النظام فى طهران، ستفوق الفوائد الاقتصادية المحتملة بصورة أكبر. حيث تشكل المواجهة المباشرة بين طهران وواشنطن، التى يمكن أن تعيد القوة العسكرية الأمريكية الرئيسية، تحديًا جيوسياسيًا يهدد مصالح روسيا فى الشرق الأوسط. لذلك ألقت موسكو باللوم على الولايات المتحدة، لاستفزازها إيران، وأظهرت معارضتها للضغوط المتزايدة من الولايات المتحدة على برنامج طهران الدفاعى، من خلال الاعتراف بمشروعية مصالح إيران الدفاعية. فضلًا عن ذلك، فإن انخراط روسيا النشط فى السياسة العالمية الذى كثفته فى السنوات الأخيرة، بعيد عن النزعة السلبية النسبية التى ميزت رد فعل موسكو، تجاه الحرب اليوغوسلافية أو الغزو الأمريكى للعراق. لذلك لن يكون الأمر مفاجأة إذا ما قررت روسيا اتخاذ خطوة تتجاوز مجرد الدعم الدبلوماسى لحماية مصالحها فى الشرق الأوسط، بما فى ذلك مساعدة إيران عسكريًا. على اعتبار أن موسكو وطهران قامتا بإضفاء الطابع المؤسسى على تنسيقهما العسكرى من خلال الاتصالات العسكرية والاستخباراتية رفيعة المستوى. ما يمكن أن يفضى إلى استعداد موسكو لتوسيع مساعدتها لإيران بما يتجاوز التدابير الدبلوماسية.
كما يؤكد التقدير أن الطموح العالمى الذى تمارسه روسيا اليوم يستدعى أن تقوم موسكو بالرد المناسب على أى سياسة أمريكية متشددة حيال إيران. فمن بين تطلعات بوتين الأساسية فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، إعادة تعريف روسيا كقوة عظمى معترف بها عالميًا. من أجل تحقيق هذا يتعين على موسكو أن تظهر مقدار التأثير الذى تتمتع به على الصعيد العالمى، لا سيما عندما تكون هناك أزمة أمنية دولية كبيرة موضع تنازع. فالإخفاق فى إظهار درجة كبيرة من المشاركة فى الأزمة الناشئة سيضر بشكل كبير بمكانة روسيا، ويقوض وضعها كقوة عظمى كما تدعى روسيا. لكن يبقى انخراط روسيا المباشر فى الصراع الأمريكى الإيرانى، فى حالة حدوث مثل هذه المواجهة، أمرًا غير مرجح. ربما تتخذ موسكو خطوات حذرة لتعزيز قدرات الردع الإيرانية، ومن غير المؤكد أيضًا أن تجرى موسكو أى تغييرات جذرية فى سياستها القائمة على عدم تزويد طهران بالأسلحة الهجومية. هذا لا يعنى أن موسكو لا يمكنها تعزيز قدرات طهران الدفاعية، فالعلاقات العسكرية بين طهران وموسكو فى السنوات الأخيرة يمكن أن تعطى صورة للخطوات العملية التى قد تتخذها موسكو لمساعدة طهران. فمنذ عام 2011، تطور التعاون الروسى الإيرانى فى ثلاث نقاط رئيسية: مبيعات الأسلحة، ويأتى فى مقدمتها أنظمة «S 300» وتبادل المعلومات الاستخباراتية حول داعش، والتعاون المعلوماتى فى المعارك السورية الذى يأتى فى شكل تنسيق المعارك المشتركة فى سوريا. أضفى هذا ركائز متقدمة للتفاعل بين البلدين، مدعومة باللجان المشتركة لتسهيلها، كما رسخ الطابع المؤسسى فى التعاون العسكرى بين موسكو وطهران خارج سوريا. لذلك يبقى من المرجح أن تكون المشاركة الروسية فى الصراع الأمريكى الإيرانى قائمة على هذا النمط الثلاثى.
قد يكون الخيار الأول لموسكو فى الرد على التصعيد بين إيران والولايات المتحدة، هو تعزيز قدرات نظام الدفاع الجوى الإيرانى لكبح التفوق الجوى الأمريكى. حيث أظهرت المشاركة الروسية فى سوريا أن الكرملين واثق من استخدام أنظمة الدفاع الجوى المتقدمة لتغيير ميزان القوى وسط المعارك المستمرة. كما كشف عن استعداد موسكو لتعديل التوازن العسكرى فى المنطقة عبر الإمداد السريع بالأسلحة. وبالتالى، ربما تحتفظ روسيا بخيار تحسين القدرات الدفاعية لإيران، من خلال تزويدها بوحدات أكثر تقدمًا، فى حال كان هذا ضروريًا. عبر توفير بطاريات «400 S» أو أنظمة الحرب الإلكترونية الأرضية، والتى يمكنها إعاقة التفوق الجوى الأمريكى، هذا يشكل جزءًا من استجابة روسيا، كما يمكن لهذه الأنظمة المتقدمة المعرقلة للتفوق الجوى أن تحسن قدرات إيران بشكل استراتيجى. لكن تبقى هناك بعض القيود الفنية بما فى ذلك التدريب والمتطلبات التشغيلية للأنظمة الحديثة، عندما تصبح إيران على وشك مواجهة الولايات المتحدة حينها لن تخاطر موسكو بإرسال موظفين روس إلى طهران لتشغيل هذه الأنظمة.
بالإضافة لما سبق، فإن أحد أشكال الرد الروسى المحتمل هو نشر الأصول العسكرية الروسية فى إيران، للحد من نطاق العملية الأمريكية أو تعقيدها. وقد أثبتت روسيا مؤخرًا أنها مستعدة لنشر وحدات عسكرية محدودة فى البلدان المتنازع عليها من أجل صد التهديدات التى تعرقل مصالحها. حيث تعد حالة انتشار قوة محدودة فى فنزويلا، لردع التهديد الأمريكى دعمًا لـ«حكومة مادورو» هو أحدث مثال على ذلك، حيث وضعت روسيا عمليات الانتشار العسكرية الاستراتيجية كخيار ممكن، ومن المرجح أن تدعم طهران القوات الروسية المتمركزة على الأراضى الإيرانية.
أخيرًا، ربما تزود روسيا إيران بمعلومات استخباراتية قبل أو أثناء اندلاع الحرب مع الولايات المتحدة، ولن تكون هذه هى المرة الأولى التى توفر فيها روسيا لحلفائها هذا النوع من المساعدة. وإن ظل من الصعب الافتراض بأن روسيا ستوفر بيانات مراقبة واستطلاع مكثفة لإيران، لكن الوصول المحدود إلى المعلومات المتعلقة بنشر القوات والمعدات والمواقع الأمريكية يمكن أن يلعب دورًا مهمًا فى تحسين قدرات إيران الدفاعية. لذلك فرغم أن موسكو لا تنوى الانخراط فى صراع عسكرى بين إيران والولايات المتحدة، فإن هذا لا يعنى أن روسيا ليست لديها خيارات أخرى سوى البقاء غير النشط. فموسكو مؤكد لا ترغب فى حدوث تحول كبير فى القوة بمنطقة الشرق الأوسط لصالح الولايات المتحدة. بالتالى، ليس من المرجح أن تتخذ موسكو موقفًا محايدًا تمامًا من الحرب التى تلوح نذرها فى الأفق. حيث لا تزال روسيا تحتفظ بعدد كبير من الخيارات فى جعبتها للتأثير على توازن القدرات العسكرية بين إيران والولايات المتحدة، فهى بعيدة عن أن تُغير قواعد اللعبة، أو قلب مجريات الحرب، لكنها بالتأكيد تستطيع خلق عقبات كبيرة أمام جهود واشنطن الحربية، وهذه الخيارات تجعل المغامرة الأمريكية فى إيران أكثر تعقيدًا مما تبدو عليه فى البداية.