رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

من قلب النجع.. "المزين" الذي ذهب مع الريح

جريدة الدستور

كان للمِزَين دورا محوريًا في قصة القرية، فما من بيت فيها إلا وطأته قدماه. والمزين هو حلاق القرية، الذي تمرد على مهنته الرئيسية وهي قص الشعر، إلى مهن أخرى، تتطلب الدراسة في كلية الطب، ولنتخيل يومًا من أيام المِزَين في القرية.

فى الصباح يخرج المزين من بيته، مولِيًا قبلته نحو بيت فلان، ليختن ولده، فيستقبله أهل الدار بفرحة وسعادة، ما عدا الطفل الذي سيرضخ تحت الموس بعد قليل، فيقوم المِزَين بتهدأته، ويُقعده على ماجور من الفخار، ويُشَمر عنه جلبابه الأبيض الجديد، ثم يغمز بعينه لأهل الطفل، فيلتفوا حوله ويحكمون الإمساك به، وكأنه لص ضبط متلبسًا بجريمته، حتى لا يتحرك فيصاب بجرح قد يفقده ذكورته طيلة حياته، ثم يضع المزين المرود الحديد ليقيس به، ثم يختنه بموس مختلف عن موس الحلاقة، "دون مخدر طبعًا"، وبهذا يكون المزيّن أدّى مهمته على أكمل وجه، فتنطلق الزغاريد وتشدوا نسوة الدار بأغنية الطهور.

طاهره يامزين
وعلى مهلك هبابة
طاهره يامزين
ده ناسه غلابة
ويبدو من سياق الأغنية أنها تخص الفقراء، إلا أنها كانت تُغنى في بيوت الأغنياء والفقراء على حد سواء، فتؤخذ كلمة "الغلابة" على محمل الفقر في بيوت الفقراء، وتؤخذ على محمل الطيبة في بيوت الأغنياء.

بعد إجراء عملية "الطهور" يجلس المزين بالقرب من الطفل المختون، وينادي عبر مكبر الصوت: "خلف الله عليكم يا محبين، طهور فلان ولد فلان، ونجاملوكم في المسرّات"، والهدف من هذا النداء هو جمع "النقوط"، وبهذا يتحول المزين من مهنة الطب إلى مهنة "نبطشي الأفراح" فيتقدم ذوي القربى "بالنقوط" الذي يكون جزء منه لأهل الطفل المختون، والجزء الثاني "للنبطشي" المزين، ويعود المزين في صباح اليوم التالي، لتغيير الشاش وتطهير الجرح، ويستمر على هذا المنوال لمدة أسبوع. وفي كل يوم يتناول إفطاره، ويحتسي الشاى والفايش والمنقوش، ويحييه أهل الدار بالسجائر أو المعسل "وياخد اللى فيه النصيب ويتكل" فيخرج من بيت المختون سعيدا، بعد أن دخل خماصًا ورجع بطانًا.

في الظهيرة يرجع المزين إلى بيته ليستريح، وبعد القيلولة يخرج "بِعدّة" الحلاقة ثم يجلس على قالب طوب أو حجر أمام بيته، أو أمام المسجد، فتنحني الرؤوس أمامه لقص الشعر، نظير نقود قليلة، أو ما يعادلها من بيض، أو حِفنة من قمح أو ذُرة أو شعير.

أما كُبراء القرية فكان المزين يذهب إليهم في بيوتهم، وحين يفرغ من عمله يدخل بيته ليستريح ويتناول وجبة العشاء في المساء، يخرج المزين حاملًا حقيبة صغيرة من القماش أو البلاستيك. بها بعض المحاقن الزجاجية، ليعود إلى مهنة الطب مرة أخرى، فيقوم بحقن المرضى من أهل القرية، بعد تعقيم هذه المحاقن في الماء المغلي هذا قبل ظهور المحاقن البلاستيك، التي ظهرت بعد اندثار مهنة المزين. كما يقوم بتطهير الجروح بعد العمليات الجراحية، بل كان المزين يجرى بنفسه عمليات جراحية، مثل فتح الدمامل وتطهيرها.

وكان المِزين يُستشار في أنواع الدواء التب كتبها الطبيب، فيقرر الصالح منها والطالح، رغم عدم معرفته بالقراءة والكتابة. وعلى هذه الحال يتنقل المزين بين بيوت المرضى، حتى يفرغ من أداء مهمته، ثم يرجع إلى بيته منهكا بعد يوم شاق، أدّى فيه أدوارا مختلفة فى رواية القرية، ثم توقظه طرقات الباب فى الصباح الباكر ليخرج مع فلان الذي سيختن له ابنه.

وإن لم يكن هناك "طهور" يذهب المزين مبكرًا إلى السوق حلاقًا، حتى يأتي المساء فيكون ممرضًا وطبيبًا، واستمر هذا الدور المحوري للمزين في قرى الصعيد الجواني، حتى سبعينات القرن الماضي، ثم تضاءل في الثمانينات، حتى اندثر في التسعينات، فلم يعد له دور محوري ولا ثانوي في مسلسل القرية.