رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جنازة البنت عزة الحزينة

جريدة الدستور

اليوم ماتت البنت عزة، واليوم دفناها.. واليوم جنازتها
لا نعرف هل هى طفلة؟ فنقول «شافعة»، أم فتاة؟ فنقول «الله يرحمها»، لا نعرف عمرها، ربما تجاوزت العاشرة، لا ندرى بقليل أو كثير.
سمراء نحيلة، نراها تستيقظ مبكرًا، تفتح باب العشة بجوار باب بيتهم، تخرج منها العنزات الثلاث، تحلب منها لبن الصباح لإخوتها الثلاثة الصغار، الولدين والبنت وأبويها، العنزة السوداء تحتها جدى وعنزة، والعنزة البيضاء تحتها جديان، والعنزة البيضاء ببقع سوداء بطنها ممتلئ، تضع لهم البرسيم وجردل الماء والخبز المبلول، بعد أن يأكلوا تتركهم يسرحون فى الشوارع، يكملون طعامهم بجوار صناديق القمامة وباعة الخضار، تخرج الدجاج من القفص وتجمع البيض.
نراها مسرعة إلى الدكان تشترى طلبات البيت، وتعود مسرعة، ونراها بجوار البيت تلعب مع البنات الحنجلليكة والستيتة ونط الحبل.
قال أبوها: اتكهربت..
فقلنا: الأسلاك العارية ومفاتيح النور التالفة والغسالات القديمة.
وجئنا بشهادة الوفاة وتصريح الدفن، لا شىء غريبًا، أحيانًا يموت الصغار من الرعونة والإهمال، والحوادث كثيرة ومتكررة وعادية.
وكان أبوها قد خرج إلى عمله فى الصباح، وبعد خروجه جاء جارهم الشاب، وهو يشرب الشاى، أرسلتها أمها لتشترى مكرونة، وحين عادت لم يكن موجودًا.
قالت أمها: أنا حانام فى الأوضة الجوانية.. لو إخواتك جاعوا.. حلة المكرونة فى المطبخ.
لما جاع إخوتها، قدمت لهم المكرونة، فرفضوها، قالوا: نريدها بالصلصة.
وكانت أمها صنعتها على عجل، بعد أن سخن الزيت، أفرغت عليه المكرونة وحين أصفر لونها وضعت الماء والبهارات، وبعد أن شربت الماء، صارت جاهزة للأكل.
قال إخوتها: لا نريدها هكذا، نريدها بالصلصة، فبحثت عن طماطم فى البيت، ولم تجد، وطرقت الباب على أمها النائمة فى الغرفة الجوانية، لكنها لم ترد، رغم أن البنت عزة سمعت صوت همسات، وصوت أمها تتحدث مع أحد، هل عاد أبوها وهى تلعب أمام البيت مع البنات؟، طرقت الباب ثانية، ولما غاب عنها الرد، ذهبت للجارات تستعير من إحداهن حبات طماطم.
سألتها الجارة التى أعطتها الطماطم عن أمها، فأخبرتها بأنها نائمة، فسألتها إن كانت تعرف كيف تصنع الصلصة، فوصفت البنت عزة طريقة الصنع، فأضافت لها الجارة بعض النصائح حتى لا تجعلها خفيفة وحتى لا تحترق منها.
قطّعت الطماطم والبصل وفصوص الثوم، سخنت الزيت ووضعت البصل ثم الطماطم، وهى تقلب كل ذلك تغمرها السعادة، وإخوتها حولها ينتظرون بلهفة.
عندما وضعت لهم الأطباق، أكلوها بنهم وشهية، جعلت لها الصلصة نكهة رائعة.
عندما استيقظت أمها روت لها ما فعلت، فأرسلتها تشترى طماطم كى ترد للجارة ما أخذته منها، ولما عادت البنت عزة رأت جارهم، الذى كان يشرب الشاى عندهم فى الصباح يهم بمغادرة البيت، وأمها تودعه على الباب.
لما عاد أبوها، راحت الأم تروى له ما فعلت البنت، التى تريد أن تفضحهم، تتسول من الجيران، اليوم أخذت طماطم، تشحت الأكل من الناس، ماذا يقولون عنا.. جياع، ليس عندنا أكل، لو اعتادت على هذا الطبع لن ترجع عنه، ولو بقى عندها مائة عام.
هكذا كانت تقول لزوجها، لم تكن تدرى ماذا شاهدت البنت، وماذا فهمت، خشيت أن تسبقها وتروى لأبيها.
ربطها أبوها من يديها وساقيها فى الغرفة الجوانية، وهى تقول من بين دموعها: حرّمت يا با مش حاعمل كده تانى.
وأمها تقول: لسعة واحدة من الكهرباء.. تجعلها كلما فكرت أن تشحت من أحد تتذكر الألم.. فلا تفعل.
وجاء أبوها بطرف السلك، الموضوع طرفه الآخر فى مصدر الكهرباء، ولمس به إصبعها، فقط أقل من الثانية، فخرجت صرختها الخافتة، وصارت البنت عزة جافة كخشبة.. باردة كلوح ثلج.