رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

التنوير.. وسلطنة «التاء المربوطة» المعنوية


تطل علينا بإلحاح الكثير من علامات الاستفهام والتعجب، وتبدو على وجوه أصحاب رسائل الإصلاح والتنوير أمارات اليأس والقنوط، ونحن نتأمل كل الجهود المبذولة لدعم مسيرة التنوير، حيث حالة تمترس الفكر المناهض والمعاكس والمحبط لفكر التنوير، ورفض الكثيرون التسريع بتفعيل آليات تطبيق مخرجات ذلك الفكر الحضارى، فعواصف فرق الإظلام ما زالت تطل علينا من محطات وبيوت الجهالة الرافضة لإعمال العقل والفكر النقدى، فرماح التشدد المقيت ما زالت تستهدف منّا وأد كل حماسة وفعل إيجابى يرى حاملوه ومبدعوه بداية الخلاص من وقع أقدام الرتابة المميتة العنكبوتية المعتمدة على التقليد الغبى، ولم يعد أمامنا إلا الحلم بإجلاء ذلك الفكر الظلامى عن قلوب ووجدان البسطاء منّا، بعد عقود طويلة استطاع أحفاد «البنا» استيطان نفوسهم ومشاعرهم بما تم تصويره على أنه «الأصولية الدينية».. وكانت المرأة «التاء المربوطة» فى القلب من تلك المجابهات، ولم تنتظر من يحارب لها أو عنها..
عندما صدر دستور 1923 دون أن يعطى المرأة حقوقها السياسية، تصاعدت الدعوة للمطالبة بحصول المرأة على هذه الحقوق، فقد علا صوت منيرة ثابت، التى كانت أول فتاة مصرية تحصل على شهادة ليسانس الحقوق، وذلك عام 1924، وقُيدت أيامها فى جدول المحامين أمام المحاكم المختلطة كأول محامية عربية، فكانت مقالاتها السياسية المنددة بخلو الدستور من مواد تضمن حقوق المرأة السياسية، وأول صحفية نقابية، وأول كاتبة سياسية، وأول رئيسة تحرير لجريدة سياسية.
وكان أن تم تأسيس أول حزب سياسى للمرأة تحت اسم الحزب «النسائى المصرى» عام 1942، وطالب الاتحاد النسائى المصرى فى عام 1947 بضرورة تعديل قانون الانتخاب بإشراك النساء مع الرجال فى حق التصويت، وضرورة أن يكون للمرأة جميع الحقوق السياسية وعضوية المجالس المحلية والنيابية، كما تأسس «اتحاد بنات النيل» فى القاهرة، برئاسة درية شفيق، عام 1949، التى قادت عام 1951 مظاهرة رفقة 1500 امرأة اقتحمت بهن مقر مجلس النواب المصرى «البرلمان»، بهدف دفع المجلس ورئيسه إلى النظر بجدية فى قضايا ومطالب المرأة المصرية، فواجهت درية شفيق تهمة اقتحام المجلس وأقفلت القضية، ولم تتحقق مطالب نساء مصر بحقوقهن السياسية إلا فى أعقاب ثورة 23 يوليو.
ولم تتوقف المرأة عن القيام بمبادرات للمشاركة مع الرجل، فقد كانت مبادرتها فى مجال السينما على يد عزيزة أمير، الكاتبة والمنتجة والممثلة المصرية التى أنتجت أول فيلم روائى صامت عام 1927، وكانت الفنانة بهيجة حافظ أول بطلة للشاشة فى تاريخ السينما العربية عام 1930، وظهرت فى فيلم «زينب»، كما أنها صاحبة أول أسطوانة موسيقية ظهرت فى السوق عام 1926 باسم «بهيجة».. ولمع اسم «روز اليوسف» كإحدى بطلات الفرق المسرحية الشهيرة، والتى تركت المسرح وتوجهت للصحافة، لتُصدر مجلتها النسائية الشهيرة حاملة اسمها عام 1925م، جاعلة منها منبرًا لصوت الجيل النسائى الذى كانت هى إحدى رائداته.. وعُرفت أيضًا الرسامة إنجى أفلاطون، صاحبة كتابى «80 مليون امرأة معنا»، و«نحن النساء المصريات»، والتى دخلت السجن أكثر من مرة لمواقفها السياسية.
فى كتابه «المرشد الأمين للبنات والبنين»، يحدثنا التنويرى العظيم رفاعة رافع الطهطاوى عن «السلطنة المعنوية للنساء» وتأثيرها على قلوب الرجال، وهذه السلطنة نفوذها يكفيهن فى تحسين أحوال الرجال وترقيق طباعهم، فإن الحب سلطان قادر، وملك قاهر، تذل لهيبته الأملاك، وتذعن لسطوة سيوفه الفتاك، وينقاد لطاعته الزهّاد والنُسّاك.. يحكى أن عربية جارية المأمون، الذى أظهر فى ممالك الدنيا مكنون غرائب العلوم والفنون، قالت له يومًا:
وأنتم أناس فيكم الغدر شيمة لكم ألسن شتى وألسنة عشر
عجبت لقلبى كيف يصبو إليكم على عظم ما يلقى وليس له صبر
فقال يخاطبها:
أنا المأمون والملك الهمام خلا أنى بحبك مستهام
أترضى أن أموت عليك وجدًا ويبقى الناس ليس لهم إمام؟!
فقالت: يا أمير المؤمنين أبوك الرشيد أعشق منك حيث يقول:
ملك الثلاث الآنسات عنانى وحللن من قلبى بكل مكان
مالى تطاوعنى البرية كلها وأطيعهن وهن فى عصيانى
ما ذاك إلا أن سلطان الهوى وبه قوين أعز من سلطانى
فقدّم ذكرهن على نفسه وأنت قدمت نفسك على من تزعم أنك تهواها! قال لها المأمون: إنى منفرد بك، والشيد مقسم بين ثلاث! قالت: أعرفهن، الواحدة مقصودة، وهى فلانة، والثنتان محبوبتان لها، فأحبهما لحبها إذ ذاك مما يسرها، كما قال خالد بن يزيد بن معاوية فى رملة:
تجول خلاخيل النساء ولا أرى لرملة خلخالًا يجول ولا قلبًا
أحب بنى العوام حبا لحبها ومن أجلها أحببت أخوالها كلبا
وهذه السلطنة المعنوية قوية، ولهذا يدعى لشوكة سلطنتها بما يدعى به لدولة الملوك، ويخاطب خطابهم كما قال شمس الدين بن العنيف التلمسانى:
أعز الله أنصار العيون وخلد ملك هاتيك الجفون
وضاعف بالفتور لها اقتدارا وإن تك أضعفت عقلى ودينى
وأبقى دولة الأعطاف فينا وإن جارت على القلب الطعين
وأسبل ظل ذاك الشعر يوما على قد به هيف الغصون
وصان حجاب هاتيك الثنايا وإن ثنت الفؤاد إلى الشجون
نعم، دعونا ندعم سلطنة «التاء المربوطة» المعنوية، ونحن نشيّد بنيان «مصر المنورة» على أنقاض دولة «المرشد» وتابعه «المكلف»، الذى قال فى واحد من خطاباته العبقرية: «تحياتى للمرأة بكل أنواعها».. أى والله هكذا قال «بكل أنواعها».. باعتبارها فصيلًا من فصائل الكائنات المصرية النشأة والميلاد!!