رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مولاتى فاطمة النيسابورية.. بستان العارفين


عشنا لحظات فريدة فى معية أم البنين فاطمة النيسابورية، وها نحن نكتب سطورنا الأخيرة عنها لا سطورها الأخيرة معنا، فمثل هؤلاء لا ينبغى أن تنتهى سطورهم معنا، بل يجب أن تتحول إلى حياة نورانية نأخذ منها أحداثها، ونترك للقبور أجداثها، ولعلكم تتذكرون أننا توقفنا عند تلك الرحلة المباركة التى انتوت فاطمة النيسابورية أن تقوم بها رفقة زوجها الصوفى الزاهد «أحمد بن خضرويه البلخى» إلى المسجد الأقصى ثم إلى المسجد الحرام، والمسافة التى سيقطعانها كبيرة لا تتحملها قامات الرجال إلا وهم على ظهور رواحلهم، فما بالك بسيدة وزوجها يذهبان مشيًا، وستتذكر فاطمة النيسابورية فى رحلتها ذلك الترف الذى كانت تعيش فيه، وهى أميرة فى قصر أبيها الأمير، ثم استغناءها عن الدنيا وملذاتها ونعيمها عندما هامت فى حب الله، وعملت على الفناء فيه، ثم مكابدتها شظف العيش وهى فى بيت زوجها الزاهد العابد وهى بذلك راضية سعيدة، فلا الدنيا كانت مبتغاها، ولا نعيم الجنة كان حلمها، ولكنه الله وحده هو مرامها، مرامها هو الفناء فى الله.
لا أعرف أحدًا من البشر استطاع أن يصف نعيم الفناء فى الله، فهو لا يُوصف، وكيف يُوصف ما لا تستطيع لغات البشر أن تُعبّر عنه، ولا يخدعنك أحد ويقول لك إن الفناء فى الله كفر ممن يقوله، أو إن صاحبه يقصد أنه اتحد فى الله، فالله فوق الحلول والاتحاد، والفناء فى الله ليس فناء جسد فى جسد، ولا روح فى روح، ولكنه فناء إرادة فى إرادة، وأخلاق فى أخلاق، إنه إفناء مشاعرنا ورغباتنا التى تسيطر علينا، إنه يا أهل الدنيا إفناء هوانا وعواطفنا فى الذى يحبه الله تعالى، فنحب ما يحبه الله، ونفعل ما يُرضى الله، ونحن فى ذلك لا نحب ما يحبه الله طمعًا فى جنته، وإن كان الطمع فى جنته هو حظ الناس جميعهم لا تثريب عليهم فى ذلك، ونحن أيضًا نبتعد عما نهانا الله عنه ليس خوفًا من ناره، وإن كان الخوف من النار هو شعور الناس جميعهم لا ملامة لهم فى هذا، ولكن هؤلاء الذين يفنون فى الله إنما يُحبون ويتجنبون، حبًا ووجدًا وعشقًا لله، حتى لو حجب عنهم جنته، أو أدخلهم ناره، فهم يرون أن الجنة هى أن يروا الله، والنار هى أن يُحجبوا عن رؤيته. بدأت مولاتى فاطمة النيسابورية فى بيت زوجها تلميذة له، تلقت على يديه المعارف الأولى، ثم أخذت تجاهد فى الله، والله يقول: «والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سُبُلنا»، وقد جاهدت مولاتى فاطمة فى الله، وقامت بإفناء دنياها من نفسها من أجله هو وحده، لذلك هداها الله إلى سبُله فأصبحت أستاذة زوجها ومعلمته.
وصلت الرحلة إلى بيت المقدس بعد أن تشققت الأقدام، وما ضير إنسان محب أن تتشقق أقدامه فى سبيل من يحب؟!، ولبثت فاطمة فى المسجد الأقصى قدرًا من الزمن لا يعلم مداه سوى الله، فإنها التقت فيه بواحد من أقطاب زمنه هو «أبواليزيد البسطامى»، وكانت تحب أن تراه وتسمع منه، وما أدراك ما البسطامى يا ولدى. كان البسطامى حين التقى بفاطمة النيسابورية شابًا فتيًا، وكانت فاطمة أكبر منه بعشرين عامًا أو تزيد، ولكنه كان صاحب علم حتى أصبح يشار إليه بأنه «سلطان العارفين»، ولكن هذا السلطان أصبح تحت يدها تلميذًا يتلمس منها أنوار الحكمة، فإذا سألها أنه يريد أن يتعلم كيف يحب الله، قالت له: «إن الحب لا يُتعلم، ولكنه يوهب من الحبيب»، ويصف البسطامى لقاءه بها فيقول: «ما رأيتُ فى عمرى إلا رجلًا وامرأة، أما المرأة فهى فاطمة النيسابورية، ما أخبرتها عن مقام من المقامات إلا كان الخبر لها عيانًا»، والمقام الذى يقصده البسطامى هو السبيل الذى يصل الإنسان بالله، كان لا يحدثها عن مقام من تلك المقامات إلا كانت تعرفه حق اليقين وكأنها تسلكه، وبعد أن تتلمذ البسطامى على يديها تلقى الله من الفيوضات والهبات، حتى إنه قال: «كنت أسوق نفسى لله وهى تبكى فأصبحت أسوقها وهى تضحك».
وعندما أذّن المؤذن ليستأنفوا رحلتهم إلى بيت الله الحرام، قال البسطامى لزوج مولاتى فاطمة «أحمد بن خضرويه البلخى»: «تعلم الفتوة من زوجتك هذه»، والفتوة التى يقصدها البسطامى هى فتوة تحطيم هوى النفس، فحينما حطّم إبراهيم عليه السلام الأصنام قال الكفار: «سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم»، والبسطامى بلمحته هذه يقصد أن لكل واحد منا أصنامًا فى نفسه، فإن حطمها كان فتى كإبراهيم، ولذلك رأى أن السيدة فاطمة النيسابورية حطمت أصنام نفسها، وعلى زوجها الصوفى أن يتعلم منها ذلك. وفى مكة استقر بهم المقام «وما منّا إلا له مقامٌ معلومٌ»، وأصبحت أمّنا فاطمة مجاورة لمكة لا تتركها أبدًا ولم تتركها لحظة، والبسطامى يتبعها ليتعلم منها ويقتبس ما يستطيعه من مقام عبادتها لله، فكان يذهب إليها وهى فى صحن الحرم المكى ليتدارس معها مقامات العبودية، ويجلس وسط تلاميذها يستمع معهم وهم ينهلون من معارفها، وكانت كل دروسها عن القرآن وآياته، وقد أفاض الله عليها فى ذلك من لدنه بفيوضات يعجز عن استقبالها الأولياء والأقطاب.
ووصلت مولاتى فاطمة أم البنين إلى السبعين من عمرها، والأبدان تشيخ، ولكن الأرواح تظل فى فتوتها وشبابها. كانت قد اعتادت طوال عمرها على أن تضع الحناء بيديها، وفى إحدى المرات سألها البسطامى متعجبًا: «إنكِ تضعين الحناء بيدك! أنا لم أرَ هذا من قبل! فما الذى حدث؟، قالت له: قضيت عمرى وأنا أضع الحناء، والتقيت بك وجلست معك وأنا على هذه الحال، وكنت وقتها لا ترى إلا روحى، والآن ترى زينتى، فلا يحلّ لى أن ألتقى بك ثانية»، وكان هذا هو آخر لقاء جمعهما، ولكن قبل ذلك كان أحد كبار المتصوفين يحثّ الخطى ناحية حلقتها بجوار الكعبة، ويجلس ليستمع إليها ويتعلم منها، كان ذاك هو القطب الصوفى «ذو النون المصرى»، وكان قد تقابل معها فى بيت المقدس قديمًا واستقبل منها علمها وإشراقها الروحى، وقال لها حينها: عِظينى، فقالت: «الزم الصدق وجاهد نفسك فى أفعالك»، وكان جهاد النفس هو سبيلها لله، وأصبح هو سبيل ذى النون المصرى، وعندما سأله أحدهم: ما أجلّ ما رأيت؟ قال: أجلّ ما رأيت امرأة تعيش مجاورة فى مكة يقال لها فاطمة النيسابورية، وكانت تتكلم فى فهم القرآن وهى وليّة من أولياء اللَّه عز وجل، وهى أستاذتى.
وعندما أهدته السيدة فاطمة هدية فلم يقبلها لأنها امرأة، وهو كان يرى أنه من غير اللائق أن يقبل هدية من امرأة مهما كان قدرها، فأرسلت إليه تقول: «إن الصوفى الحقيقى لا ينظر إلا للعاطى الوهاب، فهو العاطى الأوحد، أما نحن فأسباب»، وعندما تجاوزت أمّنا فاطمة الثمانين من عمرها بقليل كانت تجلس فى الحرم ويتحلق حولها التلاميذ، ويجلس زوجها بجوارها، فأخذت تردد: الله، الله، ثم فاضت روحها، وبعد أيام قليلة توفى زوجها أحمد بن خضرويه، ليلحق بها عند الله الذى أحبوه وأفنوا ذواتهم فيه.