رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الموت فى بلاد غريبة


هل تخيلت أن تموت غريبًا وتُدفن فى مقبرة على بُعد آلاف الأميال من مقابر أسرتك، حيث تسكن رفات أعز الناس إليك، بعد أن استنفدت سنوات طويلة من حياتك فى رحلة البحث عن الرزق خارج بلدك؟.
هذا السؤال طرأ على بالى آلاف المرات وبإلحاح، خلال سنوات اغترابى الطويلة، ولكنه عاد يلح بقوة وأنا أتلقى خبر وفاة شيخ الصحافة فى البحرين وابن «أخبار اليوم» الأستاذ لطفى نصر، الذى رحل فجأة وبصورة مؤلمة خلال توجهه من بيته إلى العمل خلال الأسبوع الماضى.
كان قد توجه إلى مكتبه فى ظهيرة يوم رمضانى، تسلم حزمة من الأخبار وقام بتوزيعها كالمعتاد، وسلم أخبارًا إلى المطبعة بعد إعادة تحريرها بنفسه، وعندما اقترب موعد أذان المغرب همّ بالمغادرة، وفى الطريق المؤدى إلى صالة التحرير التقى الصحفى المناوب فى هذه الليلة، فداعبه قائلًا: اعمل حسابك المناوبة هذه الليلة حتى الفجر، لأن صور قمة جدة ستتأخر، ثم مازحه قائلًا: هل لديك اعتراض؟، ودون انتظار للرد توجه للخروج من بوابة الجريدة، دون أن يدرى أنه خروج أخير وبلا عودة.. فبعد الإفطار فى منزله أعاد ارتداء ملابسه بهمة، ونزل من البيت ليستقل سيارته متوجهًا إلى العمل، لكنه، وعلى حين غرة، أُصيب بغيبوبة سكر جعلته يرفع قدمه، فيما يبدو، عن دواسة البنزين، لتستمر السيارة فى السير ببطء وتصطدم بحائط ثم تتوقف، وهنا اكتشف من فى الطريق أنه قد فارق الحياة.
بسرعة وضع القدر نقطة فى نهاية السطر الأخير من رحلة عمر شيخ الصحافة فى البحرين، أو «عم لطفى» كما كان الجميع ينادونه، صحفيون وموظفون بالجريدة، ومسئولون ورجال دولة، هكذا وبشكل مفاجئ انتهت رحلة عمر استمرت ثمانين عامًا، قضى منها ٤٥ عامًا مغتربًا فى البحرين، التى أحبها وأحبته ومنحته جنسيتها، لكن كل شىء فيه كان يقول إنه مصرى، يعيش مغتربًا فى بلد يعشقه ويعشق أهله.
رحل هكذا وبكل هدوء رجل ملأت الصحافة حياته بالصخب أكثر من نصف قرن، بين «أخبار اليوم» فى القاهرة، و«أخبار الخليج» فى البحرين.. يصحو على مكالمات من رئيس التحرير أو من كبار المسئولين ويقضى نهاره بين مصادر الأخبار، والمساء والسهرة يقضيهما كالمعتاد فى مكتبه، الذى لا يودعه إلا بعد الاطمئنان على بروفات صفحات جريدة اليوم التالى.
هل كان يتخيل هذه النهاية؟ هل اعتقد أنه سيُدفن فى مقبرة المنامة وليس فى إحدى مقابر محافظة كفرالشيخ وهى موطن عائلته، التى تساقطت أوراق العمر لأغلب أفرادها وهو بعيد عنهم آلاف الأميال.
لا بد أن زملاءك ومرءوسيك وكثيرًا من المسئولين سيتذكرونك لشهور أو لسنين لا يعرف أحد عددها، ولكن كم من الناس سيقفون على قبرك لقراءة الفاتحة؟، ربما لن يشغلك هذا السؤال ولكن كثيرًا من المغتربين الأحياء سيحاولون الإجابة عنه.
هذا الرحيل الدرامى المفاجئ «قلب علىّ المواجع»، وجعلنى أعيش حالة تأمل فلسفية فيما فعلته الغربة بنا، جعلتنى أتذكر حال ملايين اختاروا الترحال كغرباء، حتى تتحسن أحوالهم، فأدمن بعضهم غربته، واندمج بعضهم فى عالمه الجديد، لكن الغالبية من المصريين بالذات يحبذون العودة إلى الوطن، ليكتشفوا أن الدنيا تغيرت كثيرًا حولهم دون أن يدركوا فى الوقت المناسب.
الغرباء يحبون البلاد التى عاشوا فيها، ورزقهم الله من خيراتها، ولكن هل تبادل هذا البلاد الغرباء حبًا بحب؟، هل تعتبرهم من أهل الدار لأنهم عاشوا على أرضها سنوات وعقودًا، وحملوا أوراقًا رسمية تقول إنهم أصبحوا مواطنين، أم أنهم، رغم حبهم الشديد لهم، يواصلون النظر إليهم كغرباء؟.
الغرباء تفاجئهم حقيقة شديدة المرارة، وهى أنهم عندما يعودون إلى بلدهم بعد سنوات طويلة يشعرون بالغربة الشديدة أيضًا، وقد يحتاجون إلى سنوات طويلة حتى يتبدد إحساسهم بالغربة فى وطنهم.
الغرباء الذين يبتعدون عقودًا من الزمان، يفقدون القدرة على الارتباط بالأماكن، البيوت.. الشقق.. الشوارع والمقاهى، وحتى مذاقات الأطعمة ونكهاتها.. يستمتعون بها لكنهم لا يرتبطون بأى منها مثل كثيرين لم يبارحوا بيوتهم أو الشارع الذى تربوا فيه.
الغربة تتحول إلى شىء يلازمك كظلك، يلتصق بك كجلدك، تكرهه وتحبه.. ويتحول إلى نمط حياة يجعلك قادرًا على النوم فى أى غرفة فندق بنفس العمق الذى تنام به فى بيتك، تتلذذ بأى طعام، تتأقلم مع أى مدينة بعد ساعات من وصولك إليها، تتسوق بأى عملة، تتفاهم بسهولة مع الأجانب مهما كانت صعوبة لغتهم.. لكن المشكلة أو المأساة أن إخوتك وأقرب أصدقائك القدامى سوف يشعرون بعد عودتك بأنك أصبحت غريبًا عنهم، أو بأنك لم تعد نفس الأخ الذى تقاسموا معه الخبز على مائدة الأسرة، وآه لو شعرت بأن هذا الإحساس تسرب إلى أبنائك وزوجتك الذين غبت عنهم سنوات طويلة.. كنت تأتيهم خلالها فى إجازاتك حاملًا الهدايا وتحوّل لهم مبالغ كبيرة كل شهر، وعندما عدت إليهم رحبوا بك وارتموا فى حضنك.. لكنهم بعد أيام بدأوا يستغربون طباعك أو مجرد وجودك فى البيت.. هل هناك أقسى من هذه الحالة؟، عندما تشعر بأنك نجوت من الموت فى الغربة، لتموت وأنت حى فى عيون وقلوب أقرب الناس إليك.. لعن الله الغربة.