رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"تفكيك الصنم"..

محمود خليل يكتب: المسلم العضوى.. «أكذوبة قطبية»

جريدة الدستور

يذهب سيد قطب فى كتابه «معالم فى الطريق» إلى أن القاعدة النظرية للإسلام لا بد أن تترجم فى تجمع عضوى حركى، وأنه ليس من المتصور أن يكون المسلم عضوًا فى واحدٍ من المجتمعات التى يتهمها «قطب» بالجاهلية، وكل المجتمعات كذلك من وجهة نظره، لأن وجوده- مع إسلامه- ضمن تركيبة جاهلية ستؤدى به لا محالة للاستجابة للشروط والقوانين والعادات التى تحكمها، بالإضافة إلى التزامه بالعمل على تقوية «الجاهلية» من حيث يريد هدمها والقضاء عليها. ويشير «قطب» إلى أن محور التجمع الحركى يتمثل فى القيادة التى تحددت فى شخص النبى محمد صلى الله عليه وسلم عند ظهور الإسلام، وتتحدد بعد ذلك فى كل قيادة إسلامية تستهدف رد الناس إلى ألوهية الله وحده وربوبيته وقوامته وحاكميته وسلطانه وشريعته، وعلى من وضع نفسه تحت إمرة هذه القيادة أن يقطع كل أواصر صلته بالتجمع الحركى الجاهلى.
من رحم فكرة «المسلم العضوى» خرجت العديد من المفاهيم التى تغذى عليها التطرف، مثل تكفير الآخر «الجاهلى»، وترك المجتمعات والهجرة إلى الصحارى وشعاب الجبال، والتخطيط والتنفيذ لمواجهات دموية مع السلطات والمجتمعات. الفكرة «القطبية» مغلوطة من أساسها، حين تمركز الإسلام فى الانتماء إلى جماعة أو حركة، وتعتبر المسلم الفرد أو غير المنضوى فى التجمع الحركى «مسلمًا نظريًا». جوهر المغالطة فى هذا الطرح يتمثل فى العبور على العديد من الآيات القرآنية التى تعتبر الإيمان بالله تعالى مسألة فردية: «لقد أحصاهم وعدهم عدًا وكلهم آتيه يوم القيامة فردًا»، وتجعل المسئولية الإيمانية فردية: «كل امرئ بما كسب رهين».. «ولا تزر وازرة وزر أخرى»، وتجعل الحساب فرديًا: «لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت».. «وكل إنسان ألزمناه طائره فى عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابًا يلقاه منشورًا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبًا». فالإسلام يتحدد فى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله- كما نص الحديث النبوى- والمسلم محاسب بعد ذلك على أعماله. ومؤكد أن القرآن الكريم لم يشر من قريب أو بعيد إلى أن الإنسان سيحاسب يوم القيامة على انتمائه أو عدم انتمائه إلى جماعة، مثل جماعة الإخوان.
فكرة المسلم العضوى المنضم إلى جماعة أو تجمع حركى تفتئت على آيات القرآن الكريم التى تؤكد بشكل صريح على «فردية الإيمان» «وفردية المسئولية» و«فردية الحساب»، بل وتشير إلى ما هو أبعد من ذلك، حين تعتبر الفرد الواحد فى ظروف معينة أُمة وحده، مثلما حدث مع نبى الله إبراهيم: «إن إبراهيم كان أُمة». والله تعالى يهدى من يشاء من عباده، ولو كان فى مقدور إنسان إجبار غيره على الهداية لفعلها النبى، محمد صلى الله عليه وسلم، الذى خاطبه المولى عز وجل، قائلًا: «فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر». فى سورة الكهف علّم الله تعالى الأمة كلها درسًا خالدًا من خلال الفتية الذين آمنوا بربهم وروعوا بما عليهم قومهم من وثنية. لم يفكر أىٌّ منهم فى تكوين تجمع حركى- كما دعا سيد قطب- يواجهون به مجتمعهم، بل فروا بدينهم واختبأوا فى أحد الكهوف. لم يكن «الكهف» دلالة على مجرد مكان، اختبأ فيه الفتية، بل كان دالًا على معنى أعمق، يرتبط بكهف الذات التى يئست من أن يهتدى المشركون من أبناء القرية، ولم يكن هذا التفكير من الحكمة الإيمانية فى شىء. فليس من العقل أن يتصور مؤمن بفكرة أو قضية أو عقيدة أن بإمكانه هداية أحد، كما أنه ليس من حقه النقمة على من يعيش أسيرًا فى كهفه الخاص، لأن الهدى فى النهاية هدى الله، وليس هدى إنسان، حتى ولو كان نبيًا يأتيه الخبر من السماء.
أنسى الخوف والحرص على الإيمان فتية «الكهف» هذا الدرس، فأراد الله تعالى أن يعلمهم إياه بالتجربة، وجعل مسرح الحكاية «كهفًا» حقيقيًا ضرب الله تعالى على آذانهم فيه سنين عددًا، ثم بعثهم بعد مرور ثلاثة قرون وتسع سنوات، وبعد أن أفاقوا خرج أحدهم يطلب طعامًا لهم، وما إن أخرج للبائع قطع الفضة التى كانت فى جلبابه الذى تحول إلى أسمال، حتى صرخ البائع فى وجهه: لقد دقت هذه العملة منذ أكثر من ثلاثة قرون!، مؤكد أنك عثرت على كنز من عهد الملوك الغابرين!. فر الفتى والناس من ورائه حتى وصلوا إلى الكهف، وأدرك الطرفان الحقيقة، فريق الفتية وفريق الأهالى، أدرك الفتية أن القرية التى خرجوا منها آمنت، وأصبحت على دينهم، وأدرك الأهالى أن هؤلاء هم الفتية الذين تناقلت الأجيال حكايتهم، وأمام الكهف تعلم الطرفان الدرس، وملخصه أن الإنسان لا يصح أن يجعل من نفسه قيمًّا على غيره فى أمر الدين، لأن الهدى هدى الله، أو يظن فى نفسه امتلاك الحقيقة المقطرة والفهم المطلق للدين فيؤطر غيره على الانضواء تحت يافطة تجمعه الحركى.