رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"ولى ومريد"..

مولانا جلال الدين الرومى.. مُحيط العرفانية


والآن يجب أن يَحطّ «شمس الدين التبريزى» عصا الترحال، ففى مدينة قونية سيلتقى أخيرًا صاحب الوجه المخفى والقلب البلورى، وسيفتح له أبواب الحكمة، ويرشده إلى نهر العرفانية ليغترف منه ما يشاء، وفى قونية أخذ شمس التبريزى يتصفح الوجوه ويتفرس أحوال الرجال.
لا تظن أنه كان يذهب إلى المساجد وحدها ليبحث عن صاحب الوجه المخفى، ولكنه كان يذهب أيضًا إلى الحانات، فينظر إلى تلك الوجوه المتغضنة، ويصاحب الباعة الجائلين والتجار والأحرار والعبيد لعل أحدهم يكون هو صاحب الوجه المخفى، إلى أن سمع عن أحد علماء الفقه من الذين نالوا شهرة واسعة، فقرر أن يذهب إليه فى مسجده إذ لربما يكون هو، وعندما اعتلى الفقيه الشاب درجات المنبر واستدار إلى المصلين حتى كاد التبريزى أن يصيح، إنه هو، هو، هو صاحب الوجه المخفى، لقد زالت الغمامة من على وجه صاحبه الذى رآه فى حلمه، وانكشفت حجب الغيب، والتقت الأرواح فى زمان ومكان بعد أن كانت تسبح معا فى ملكوت الله فى «لازمكان».. ولكن من صاحب الوجه المخفى هذا؟!.
عندما بدأ شمس التبريزى منذ أكثر من خمس وثلاثين سنة رحلته للبحث عن صاحب الوجه المخفى كان صاحبه وتوءم روحه لا يزال فى رحم الغيب، لم يكن موعد مجيئه إلى دنيا الناس قد حان بعد، وكان لا بد أن يجوب التبريزى الآفاق، ويعترك مع الدنيا ليحصل على نصيبه من العشق الإلهى، ذلك العشق الذى سيهبه نفحة من نفحات الحكمة، وسرًا من أسرار العرفانية كان من المُقَدّر أن يبوح بهما ذات يوم لصاحب الوجه المخفى، ومرت سنوات والتبريزى لا يفهم لماذا تأخر اللقاء! ولكنه أدرك أن اللقاء لن يتم إلا إذا كان هو مؤهلًا للبوح، وكان الآخر مؤهلًا للتلقى، و«لكل نبأٍ مُستقر».
ولنعد الآن إلى صاحب الوجه المخفى لنعرف قصته، إذ لا يليق بنا أن نتركه كل هذا الوقت دون أن نتعرف عليه، أما اسمه فهو «محمد بن بهاءالدين ولد البلخى» كانت أسرته من مدينة «بلخ» الأفغانية وهى نفس بلد العارف الزاهد شقيق البلخى، أما صاحبنا محمد فقد وُلِد والأقدارُ ترعاه وتختار له الأب والأم والأسرة، فوالده «بهاءالدين ولد» كان سلطانًا للعلماء فى بلده، وكان أكبر فقهاء المذهب الحنفى، وكانت له فى ذات الوقت فيوضات وعرفانيات صوفية، ولكن هل تدرون كم كان عمره عندما أنجب ابنه محمد؟ كان قد اقترب من الستين من عمره، إذ كانت زوجته أم أولاده الكبار قد توفيت إلى رحمة الله فتزوج من والدة صاحبنا «محمد» السيدة «مؤمنة خاتون» ابنة خوارزم شاه علاءالدين، أحد أمراء الدولة الخوارزمية، وما كان له أن يصاهر سلاطين الدولة الخوارزمية إلا إذا كان صاحب علم وقيمة، ووُلِد الابن والأبُ الشيخ الكبير قد رق قلبه وضعفت قواه، ومن شاخ فى بلدٍ أصبح جزءًا منها لا يستطيع أن يفارقها، ولكن ماذا يفعل وهو يخشى على أسرته وابنه الوليد من غوائل الأيام وسيوف الغزاة؟! وقد كان سيف الغزاة فى تلك الأيام لا منجاة منه، فها هى جحافل المغول تجتاح الأرض، وتقترب من أفغانستان وتهدد حكم الدولة الخوارزمية، وجيوش الإمبراطور «جنكيز خان» لا تعرف إلا الإبادة، كل من يتحرك على وجه الأرض يجب أن يُباد، وكل كتاب فيه علم يجب أن يحرق، فقد قرّ فى يقين جنكيز خان أن ديانته «الشامانية» هى التى يجب أن تسود على ديانات العالم، والشامانية من الديانات القديمة التى كانت تعتنقها القبائل البدائية فى سيبريا وآسيا الوسطى، ومع ذلك فإنك إذا قرأت قصة حياة جنكيز خان منذ طفولته الأولى ستعرف أنه كان لا يؤمن إلا بالقوة، فالقوة هى دينه، والقتل هو عقيدته، واستعباد الناس هو هدفه، ولا يغرنك يا صديقى دعاوى الدين، فالقوة هى دين العالم، من يملك القوة فقد مَلَك العالم، ولكى تكون القوة مُبَررة كانت فى بعض الأحيان ترتدى ثوب الدين، ولم يعد أحد يدرى، هل الدين يدعو إلى البطش والقتل واحتلال الأراضين؟! أم أنه يدعو إلى الحب والسلام؟ ولكننا سنعرف أن فى كل فترة من فترات عالمنا هيمنت فيها دولة بقوتها على باقى البلدان، إلا وظهرت دعوة للحب والسلام تكون فى قوتها الناعمة أمضى من قوة السلاح، هذا هو التوازن الذى سيظل محافظًا على الدنيا حتى يقضى الله أمرًا كان مفعولًا عندما تسود القوة، ويغيب السلام، فتفنى الأرض بما فيها ومن فيها.
ولكن ذلك الشيخ العجوز، سلطان العلماء فى قومه، ذلك الذى أخنى عليه الدهر، لم يجد من أمره إلا أن يحمل عصاه ويرحل هربًا من جيوش المغول التى تقترب من خوارزم، ومن بلده بلخ، وقد كان الشيخ العجوز وهو يحمل أسرته ويرحل يعرف أن القتل هو بضاعة الشيطان، وأنه لا يرتوى أبدًا من الدماء، بل يظل يغترفها ثم يبصق بعضًا منها على أردية رجال الدين وعمائم الأئمة، ثم يجعل من تلك الدماء نهرًا تلحس منه ألسنة الفتاوى والمفتين من كل ملة ودين، هرب الشيخ بولده وزوجه، وما أقسى أن يترك الإنسان بلده مرغمًا، تلك البلاد التى شهدت طفولته وصباه ومراحل عمره، تلك البلاد التى كان يأمل أن يوارى ثراها جسده فى أحد الأيام، تلك البلاد التى تحت ترابها أجساد الآباء والأجداد، وتاريخ العلوم والعلماء، الآن سيُحال بينه وبينها، وما أشقاك أيها الإنسان فى غربتك.
نظر الشيخ لبيته النظرة الأخيرة قبل أن يفارقه، وحملت زوجته «مؤمنة خاتون» أغراضها لتضعها على الراحلة، والطفل الصغير «محمد» الذى بلغ بالكاد خمس سنوات لا يعرف ما الذى يحدث الآن، ولا لماذا سيغادرون؟ ولكنه سيكون معهم على أى حال، وغادر الموكب الصغير بلده بين بكاء القريبات، ووداع المحبين، وانضم الموكب الصغير إلى قافلة كانت فى طريقها إلى نيسابور ثم إلى بغداد، وفيها كانت فترة الاستراحة الأولى، وبعد ست سنوات من رحيل الشيخ وأسرته اجتاحت جيوش المغول مدينة بلخ وقضت على حكم الدولة الخوارزمية، والشيخ تصله الأنباء وهو فى بغداد، فيأسى ويبكى على حال بلده، وكان قد ألحق ابنه محمد فى أحد الكتاتيب ليحفظ القرآن ويتعلم الحساب والنحو، والطفل يشب عن الطوق وقد بان شغفه للمعرفة، حتى إنه كان لا يشارك الصبيان ألعابهم وقصصهم، ولكنه كان يلازم الكبار دائمًا، والأب العجوز هو المُعلِّم الأول له، عندما وجد فيه نجابة وذكاء وألمعية وتوقد ذهن وقوة حافظة أدرك أن ابنه سيكون له شأنٌ كبير فى مستقبل الأيام، وفى سنٍ صغيرة كان صاحبنا محمد بن بهاءالدين البلخى قد أتقن الفقه، وأخذ يقرأ بالفارسية ديوان «أسرار نامة» لفريد الدين العطار، وما أدراك ما أسرار نامة؟ وما أدراك من فريد العطار؟ فقد كان هذا الديوان هو بقعة النور التى استولت على قلب الصبى وحركت مشاعره التى كانت راقدة عند كتب الفقه، وغيرت حاله وجعلته مهيأ لكى يكون «جلال الدين الرومى» الذى سنعرف باقى قصته فى الحلقة القادمة.