رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"ولى ومريد"..

شمس الدين التبريزى.. رحلة الثلاثين سنة


انكشفت الحجب، فعرفنا أننا كنا نعيش مع شمس الدين التبريزى، وفهمنا تلك الرؤيا الغريبة التى رآها فى منامه عندما كان فى مهد الطفولة، وفيها كان يحمل نورًا ويبحث عن قلب رجلٍ يستحق أن يضع فيه هذا النور، ولكنه لم يكن يعرف وجه هذا الرجل، وقد اعتبر التبريزى أن تلك هى رسالته فى الدنيا، لذلك يؤثر عنه أنه لم يبت فى مكان واحد ليلتين، وظل يتنقل ويبيت فى خانقات الدراويش، حتى اعتبره الناس درويشًا، ولم يفهم معظمنا طبيعة هذا الصوفى الفريد، وكأنه نسخة أخرى من «المنصور بن الحسين الحلاج»، ولكن الحلاج كان يبوح بعشقه لله لكل الدنيا، والدنيا لم تفهمه، ولكن التبريزى فكان يبحث عن رجل واحد من أهل الدنيا يبوح له بما فى داخله، والدنيا يا ولداه لم تفهم الرجلين.
قالوا عن التبريزى إنه كان ساحرًا، وقالوا ذلك عن الحلاج، وقالوا عن التبريزى إنه يرتزق عن طريق قراءة الكف، والذى يرتجى كف الرحمن فما لكفوف الناس له حاجة، وقالوا إنه كان يرتزق عن طريق تفسير الرؤى، ومن كانت حياته كلها رؤيا فما لرؤى الناس عنده قيمة. نعم كان يعيش مع الدراويش، وكان أيضًا يعيش مع النُساك والزهاد، كان يعيش مع الدراويش، وكان يعيش أيضًا مع الفقهاء، بل كان يراهم أقرب إلى الله من الدراويش، وعاش أيضًا مع رهبان وأحبار، ولكنه لم يكن منهم، تستطيع القول إنه عاش مع كل هؤلاء، ولكنه لم يكن منهم، هل تريدون دليلًا على هذا الكلام؟ إذن فاسمعوا معى صوت التبريزى عندما يصل إلينا عبر الزمان وهو يقول: «لم أكن أجالس الفقهاء لأنهم ليسوا دراويش، وعندما جلست مع الدراويش فضلتُ عليهم الفقيه الذى لا يدعى أنه درويش»، ويقول أيضًا عن الدراويش: «الكلام حول معشوقهم فيه من المهابة الكثير، وكلامى عن العشق الحقيقى لا يُشبه كلامهم، فأنا لا أعطى معشوقى الأوساخ التى على حذائى كما يفعلون»، والأكثر من ذلك، فإنه كان يقول عن هؤلاء الدراويش إنهم فئران، وإن الله سيرسل لهم قططا لتشتت شملهم، والقطط عنده هم الأولياء.
هذا رجل ينفى عن نفسه أنه درويش، ويستنكر تصرفات الدراويش الذين يعيشون على الإحسان الذى يقدمه الناس لهم، ولعلكم تتذكرون الدرويش الذى دخل على مولانا أبى الحسن الشاذلى فرآه يرتدى فاخر الثياب، فقال له: يا شاذلى ليس بمثل هذه الثياب يُعبد الله، فأمسك الشاذلى بثياب الدرويش المتسخة والمهترأة وقال له: «ولا بمثل هذه الثياب يُعبد الله، ثيابى تقول للناس ليس لى بكم حاجة، وثيابك تقول للناس أعطونى»، ولكننا نعلم أن الرواة قالوا عن التبريزى إنه درويش، والروائيون ساروا على نهج الرواة، وقالوا بخفة ودون أن يكلفوا أنفسهم عناء البحث إنه درويش، ويبدو أن فكرة الدرويش الذى يهيم على وجهه ويقول كلامًا غير مفهوم قد حركت خيال الروائيين فاستحسنوها فى التبريزى، وليس معنى هذا أننا نذم الدراويش، ولكن حال الدراويش غير حال أئمة العشق الإلهى الذين تفوح منهم أنوار الحب، إلى أن يأتى أمرُ الله الذى ليس منه بُد فيُهدم هيكلُهم الآدمى وتنطلق أرواحهم فى سماء الغيب، كما أننى أعتبر التبريزى منتميًا إلى نمط من الصوفيين يختلف عن الباقين، هو أقرب إلى رابعة العدوية، والحلاج، أو إلى محيى الدين بن عربى، وابن الفارض، فهؤلاء هم أئمة العشق الإلهى، فى حين أن الصوفيين هم أئمة الطريق إلى الله، ثم الطريق فى الله «ولكلٍ وجهةٌ هو موليها»، والدراويش يقتاتون العشق من على موائد الصوفيين، وكان التبريزى يقول: «من خصالى أننى أدعو للكفار بالخير»، وهذه هى خصال الذى أحب الله فأحب كل الناس، كافرهم ومؤمنهم، وعندما سأله أحدُهم ذات يوم: من أنت؟، قال: «هذا سؤال صعب، دعنى أفكر فى الإجابة، ثم أقول لك أنا أحد أبناء آدم»، وكان يقول ما أنا إلا ذرة تراب فى حذاء سيدنا محمد.
وتدور الدنيا بالتبريزى ويدور هو فيها، ويكتب الشعر الصوفى بلغته الفارسية فيقول: «لا تجزع من جرحك، وإلا فكيف للنور أن يتسلل إلى باطنك؟» ويكتب: «أن هذا العالم أقصر من شهقةٍ وزفيرها، فلا تغرس فيه إلا بذور الحب»، ويأخذ التبريزى فى غناء شعره وهو يعزف على الناى، فقد كان يحب الموسيقى، وكان يرد على الذين يُحرمون الموسيقى قائلًا: «لم يهبنا الله الموسيقى ليحرمها علينا، هذا رجلٌ كان يحمل قلبه وعشقه ونايه ويسير بهم فى الحياة، يقدم للناس الورود»، فقد كان يقول: «إذا مشيت فى الطريق فخذ معك وردة لتهديها إلى من تقابله»، ويقول: «بأى ماءٍ يمكن تطهير القلوب من أدرانها؟ بماء الدموع»، ويقع التبريزى أثناء رحلاته وتجواله فى مشاكل كثيرة، فيضطر إلى المبيت فى العراء، وعندما سأله أحد الدراويش: «لماذا لا تأتى إلى التكية؟، قال: لا أجد نفسى منسجمًا مع ساكنى التكايا، لأن هؤلاء يكرهون الكدّ والعمل وينفرون من دخول التجارب الجديدة، وأنا لست من هؤلاء، بل أنا على الضد منهم جميعًا»، إذن لم يكن التبريزى درويشًا متسولًا كما يقول الرواة، بل كان يعمل ويكتسب رزقه بعمل يده، وعندما تضيق به الأحوال كان يركن إلى العراء ليستظل بالسماء، وحينما يظن بعض اللصوص أن معه مالًا يبرحونه ضربًا ليخرج لهم ما يُخبئه، وهو يبتسم لهم ويقول: إن مالى فى قلبى، فيسألونه: وما مالك؟، فيقول لهم حب الله، ويشكوه فقهاء البلاد التى يدخلها للقضاة، وحدث له وهو فى بلاد الهند أن سمع خطبة من أحد أئمة المسلمين وهو يقول عن طائفة من الطوائف: إنهم كفار لأنهم يعبدون الأحجار، فيقوم التبريزى قائلًا: أنت تقول عن عُبَّاد الأحجار إنهم كفار، فلماذا تتجه فى صلاتك إلى حجر وتجعله قبلتك؟، فيجرى وراءه المصلون ويوسعونه ضربًا.
هل تعرفون كم مضى من العمر على التبريزى وهو على هذا الحال والترحال يبحث عن صاحب القلب النورانى والوجه المخفى؟، ثلاثون عامًا مرت عليه فى رحلته، لم يخالجه فيها يأس أو تكاسل، بل كانت همته تزداد يومًا بعد يوم، فهو الذى قال: لا تيأس، فبعد ظلام الليل يأتى نور النهار، وها هى الأيام تقترب، وها هو الرجل الطوَّاف يصل إلى الستين من عمره، وما بقى من العمر إلا القليل، ولكن الطفل الذى كان يمشى خلف والده فى مكة، والذى قال عنه محيى الدين بن عربى قولًا أظنكم تتذكرونه وهو: ما شاء الله محيطٌ يمشى خلف بحيرة!، هذا الطفل شب عن الطوق، وتلقى من المعارف ما سمح له أن يجلس للفتيا بين الناس، وهو يعيش هناك فى مدينة «قونية» التركية التى تقع جنوب الأناضول، وكانت فيما مضى من الأيام عاصمة للدولة السلجوقية التى حكمت تلك المنطقة فترة من الزمن.
مرت ثلاثون عامًا أيها الناس والتبريزى لا يكل ولا يمل، والمغول يجتاحون بلاد المسلمين، وفى تلك الفترة سقطت ممالك وانهزمت جيوش، ويصل التبريزى إلى مدينة قونية التركية، وينشرح قلبه فيها، فها هنا سيلتقى بصاحب الوجه المخفى، وسنكون معهما فى الحلقة القادمة.