رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فصل من رواية (وصايا الريح)

جريدة الدستور

أنا ابن أحد الرجال البواسل فى البلدة من كان يُعمل له ألف حساب من صنع لنا بيتًا كالقصر وحقولًا كالجنائن ومستقبلًا مضمونًا تكمل حياتك هكذا فى الخرابات هاربًا ضائعًا حتى النهاية؟!

تخفيت فى قذارة ملابسى وجسدى من قذارات أشد استفزازًا. أخذت أراقب ما حولى من بعيد لبعيد. لا أتورط فى كلام يكشف هويتى، ويكشف طريقتى فى التفكير، وصلابة منطقى، فينهدم المعبد السرى الذى بنيته حول المجنون الذى يسعى فى شوارع المدن، والقرى والكفور والعزب المختلفة على قدميه الحافيتين. ليست بيدى سوى عصا خشبية نحيلة قصيرة أدفع بها عن نفسى سخافة الأطفال الذين لا يحترمون الأسرار الغامضة. كما أقلب بها بقايا القمامة فى البراميل المتناثرة على جانبى الشوارع فى أماكن مختلفة. حين يطيل بى المقام فى مدينة أحدد أيًا من تلك البراميل صالحًا لأن أقلب بين محتوياته منافسًا القطط، والفئران، والبعوض.
أتقوت على أقل الطعام. فقط كى أظل حيًا وأفهم كل شىء قبل أن أموت. مجرى النهر كان كفيلًا بغسل جسدى كل أسبوع مرة. فى المساء من يوم الجمعة والأجواء هادئة أنزل فى المناطق البعيدة نوعًا ما عن السكان. عقلى فى جدل مع الكون بأدواته الجميلة، والقاسية فى آن معًا. سِرُّ النهر يمنحه كاملًا لمن ينزلون إليه ليلًا. هكذا كنت أفعل فى صباى، وشبابى الأول مع صديقى «أحمد كريم»، و«رضا ناجى» فى المساءات البعيدة. أخرج بعدها شاعرًا أنى أمتلك قوة لا تتاح للكثيرين. من تلك اللحظات الفريدة تعلمت أن أسبح فى الظلام ليلًا فى شقتى. فى ليلة صافية يكون قمرها «محاق» لأتحد مع ظلمة الكون. كنت أُطفئ أنوار الشقة كلها. أفرد الستائر، إمعانًا فى العتمة. يكون جميع من فى البيت الكبير نيامًا، وأنا وحدى فى الشقة أخطو على السجاد ببطء متحسسًا كل الأشياء من حولى كأننى ألمس روحها. إننى كنت أخطو فى نسيج الظلام كخيط من خيوطه، يعرفنى، وأعرفه، وقد أقف عند مسند الكرسى. ألفّ ناحيته. أحدثه عن همومى، وأنصت له. بعد حين من الصمت المتبادل أتلقى منه شكاواه. السرير. المكتب. كنكة القهوة. الملاعق، والسكاكين. أبنى جسرًا حميميًا بينى وبين الأشياء من حولى، ثم أشعل السبرتاية التى تغتصب جزءًا من العتمة. أصنع قهوتى المضبوطة، وأعود مرة أخرى إلى قلب الظلام الحميم. منذ هذا الوقت والوحدة تسكننى. الرغبة فى تبادل كينونتى الإنسانية بكينونة أخرى مؤقتًا تخاتلنى. أود أن أجرب كونى كرسيًا، أو سريرًا، أو حتى شعلة من النار. كأننى ألوذ بالأشياء من الموت المُقدَّر. يا حبذا لو صرت شجرة خاوية فى صحراء نائية لا يقطعها أحد، ولا يستظل بها كائن. أراقب بدأب طلوع الشمس، وغروبها. تحوّل الفصول، وهجرة الطيور. سكون سماء ملغزة ربما تمنحنى سرها ذات لحظة، فأشفى من قلقى المُهلك.
أقف دقائق ناثرًا بأصابعى الماء من شعرى، وجسدى. أرتدى القميص الذى كان أبيض ذات يوم وقد انتشرت الثقوب، والاصفرار المُقرف على جوانبه، ثم أرتدى الشورت الغامق الممزق. أضع قدمى اليمنى ثم اليسرى فى الأفرول الأزرق الباهت الممزقة أطرافه عند رسغى، وقدمى، وأخرج مرة أخرى إلى الشارع حيث أفتش بعينى عن مكان جديد ألوذ به، لأريح الجسد بعيدًا عن البلطجية، والمأجورين لسرقة أجساد أبناء الشوارع، لتوظيفهم فى السرقة والتسول. وأحيانًا قتلهم لمصلحة أطباء يختلسون أعضاءهم لبيعها. كل شىء رأيته فى عالمى ذاك. فى بداية تشردى بالشوارع، كنت لخيبتى وسذاجتى أبحث عن رفقة ألوذ معها فى مكان محدد، لكننى تلقيت صفعة تلو صفعة، فأن تكون فى مجموعة من فتيان، وفتيات وأطفال بحثًا عن انتماء وحماية معناه أنك مرتبط بالجميع، وبكل واحد على حدة أيضًا. عليك أن تسمع لهم بتأنٍ، وأن تتبع قوانينهم السرية قبل المُعلنة، وأن تصادق أصدقاءهم من مجموعات أخرى، وتعادى أعداءهم، وأن تتورط فى مشاكل مع الشرطة، وبقية البلطجية، ومُلَّاك كردونات الخرابات دون أن يكون لك رأى مخالف.
لكن وأنت وحيد يحذرون منك، لظنهم أنك تابع لآخرين أقوى منهم. إنك جاسوس أرسلتك الشرطة خصوصًا لو كنت تتحلى مثلى بنظرة عين قوية ويا حبذا لو ظللت ترطن بما لا يفهمون، لأنهم يقرأون عيونك بإتقان، ونظراتك المستريبة بجدية. يرتجفون خوفًا منك.
حتى بعض أفراد الشرطة بالمناسبة حين يجدون تلك الثقة فى عيونك يلقون إليك ببعض أرغفة، وقطع جبن لتأكلها، ويتركوك تنام فى الأماكن التى تختارها.
شهدت معارك، وقتلى، ولقاءات غرامية فى الخرابات، وميلاد أبناء الحرام، وكذا التخلص منهن. كان قلبى يتوجع حين أرى طفلًا يقضى سُدى دون أن تنتشله يد رحيمة، لكنى لم أتورط فى حمل مسئولية أى طفل، أو إنسان مصاب. كنت أقدم خدماتى من بعيد لبعيد. كأن أحمل طفلًا من تحت الكوبرى وأضعه قريبًا من باب عمارة مأهولة. أظل أراقب ذلك الطفل الذى تأتى صرخاته ببشر لا تزال بقلوبهم حياة. أداوى أيضًا شابًا مصابًا، وأسانده حتى أقرب وحدة صحية، ثم أتركه هاربًا إلى بعيد، كى لا يجدنى بعد ذلك، وينبش قلبى، ليعثر على حقيقتى رغبة منه فى مساعدتى، فأسوأ ما فى واقعى الجديد هو الورطة العاطفية.
ألهث خلف أى ورقة جريدة لأقرأها. ألتهم الحوادث كل يوم. أعيدها فى رأسى قائلًا: متى يصير الإنسان ملاكًا؟! تقول نفسى: أنت الآخر يا أمجد لم تنجح فى اختبار.
الشعور بالألم يروح ويجىء. ما اتجهت إلى المخدرات أحيانًا إلا لمخاتلة هذا الوجع قليلًا، لأننى لم أتحمله. فى الفترة الأخيرة تلبسنى الألم. لم يعد يفارقنى حتى مع جرعات المخدر الكبيرة. حتى بدأت أشك فى قواى العقلية. أن تختار الوحدة شىء، وأن تُفرض عليك فرضًا لهو شىء آخر عمَّق الألم داخلى أكثر مما ظننت.
أنا ابن أحد الرجال البواسل فى البلدة. من كان يُعمل له ألف حساب. من صنع لنا بيتًا كالقصر، وحقولًا كالجنائن، ومستقبلًا مضمونًا تكمل حياتك هكذا فى الخرابات هاربًا ضائعًا حتى النهاية؟! كم سألت نفسى هذا السؤال، لكننى كنت أهدأ حين أضع هذا السؤال أمام نفسى: إذا كان كل من حولك من الناس لن يكون لهم أى أثر بعد مئة عام فقط فلمَ هذا الصراع الجنونى كأنهم سيعيشون أبدًا؟ لذلك كان أحب شىء إلى نفسى هو الصعود أعلى تبة ترابية فى إحدى المدن، للنظر إلى يافطات المحامين، ويافطات الأطباء، وإعلانات المحلات التجارية من موقع تنتشر فيه المقابر، ساعتها أبتسم شاعرًا بانتصار حقيقى حين أنصت إلى ابتسامة الموت الهازئة بالجميع.