رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

خبز أمى وفجر مسجدى


أبناء الخمسينيات والستينيات فى القرى تحديدًا وبعض المدن عاشوا عصر الكتاب وتعلموا على يدى شيخ الكتاب، وأغلبهم عرف الفلكة وقليل ممن رحمهم ربى أفلتوا من العصا الخيرزان أو جريدة الشيخ.. هذه الأجيال، التى قدمت زويل ومجدى يعقوب والكثير من العمل والقادة والسياسيين.. تعلموا على اللوح الاردواز والقلم البوص وحفظوا القرآن أو أجزاء منه وتعلموا بدايات الحساب على يدى مشايخ الكتاب.
فى قريتنا الصغيرة – شبرا قاص– بالغربية مرت مجموعة كبيرة من أبناء القرية على كتاب الشيخ المغاورى والشيخ سليم ومنهم من وصل إلى عمادة الكليات أو مساعدين لوزراء فى وزارات سيادية، ومنهم من اكتفى بتعليم الكتاب وسلك دروبًا أخرى، ولكن فى كل الحالات ستظل الكتاتيب مرحلة مهمة فى التعليم تمهد لدخول المدرسة الابتدائية الوحيدة بالقرية.. فى الكُتاب تعلمنا احترام الأستاذ، وكان خوفنا واحترامنا لشيخنا الكفيف يعادل الخوف والاحترام للأستاذ فى المدرسة.. لم يكن يرى الشيخ تلاميذه فى الكتاب وكان بإمكانهم اللهو ومعاكسته والهروب من عصاه، ولكن الدافع لاحترام المعلم وما غرسته الأسرة فى نفوس الأبناء من ضرورة احترام الفقيه كان السبب فى احترام وتقدير الشيخ.. ومن مرحلة الكُتاب إلى المدرسة الابتدائية، والتى كانت فى أول القرية واستقبلنا فيها الشيخ فهيم عامر، رحمه الله، وكان من دفعتنا الكثير من وصلوا إلى مراتب الأستاذية فى الجامعات أو مناصب قيادية، ومنذ اليوم الأول غرس فينا الشيخ حب القراءة، كان رحمه الله شيخًا أزهريًا معممًا، ولكنه كان يحكى لنا القصص ويدفعنا إلى حصة القراءة وغرفة الموسيقى وإلى حصة الألعاب.. كما يحرص على أن نحفظ الشعر ونتعلم الحساب ومبادئ العلوم.. كان المدرس شاملًا وكانت حصة القراءة مهمة، وكان العقاب على عدم التركيز فى حفظ الشعر أو فهم القصص أكثر قسوة من العقاب على عدم تعلم الحساب أو العلوم.. كان لدينا حوش كبير للمدرسة تمارس فيه الرياضة، وكان طابور الصباح فرصة للتنافس بيننا فى المعرفة والمسابقة والإبداع، كانت هناك جماعة الخطابة وفرقة الموسيقى ومجموعة الرياضة.. وكان لنا فى كل فصل مكتبة صغيرة نكونها من مصروفنا الضئيل ومن مساهمات أستاذنا، بالإضافة إلى حجرة كبيرة تضم مكتبة المدرسة ننهل منها جميعًا.. موسيقى ومسرح ومكتبة ورياضة وفناء كبير فى مدرسة بقرية صغيرة بالدلتا يضاف إلى ذلك وجبة للطلاب ورعاية صحية وحكيمة تمر على الطلاب ومشرفة تتأكد من نظافة الأظافر والملابس.. هذا كان فى المدرسة الابتدائية واستمر طوال دراستى، وكانت المدرسة كذلك قبل أن أنتمى لطلابها وبعد أن تركتها.. مرت عشرات السنوات وعدت مرة وأنا فى قريتى ودفعنى الشوق إلى دخول المدرسة.. تآكل الفناء واكتفى طابور الصباح بتحية العلم والتوجه إلى الفصول، ولم أجد المكتبة ولا حجرات الفنون ولا الموسيقى ولا جماعات الخطابة والفن، ولكن كانت هناك مسابقات فقط لتحفيظ القرآن الكريم ولم أجد الفتيات الصغيرات بأزياء مبهجة، ولكننى فوجئت بالحجاب يغطى رءوس طالبات الصف الأول الابتدائى.. لم أجد فيها ريحًا من مدرستى القديمة، فقط وجدت حجرة للحاسب الآلى لا يدخلها إلا المحظوظون.. ولم يكن ذلك هو المتغير الوحيد فى قريتى، فعندما ذهبت إلى مركز الشباب لأجد مبنى جميلًا به صالات للجيم وكمال الأجسام ولعب الكاراتيه.. وانزوت مكتبته فى جزء صغير، وأيضا كانت المسابقات مسابقات ثقافية دينية، لم يفكر أحدهم فى أن يعلم النشء شيئًا عن الدستور والحياة السياسية والفكرية وعن وضع مصر حاليًا وسابقًا.. وتذكرت مركز الشباب فى الستينات.. كنا فى منزل مبنى بالطوب اللبن، وكانت به كتب قيمة على أرفف من الخشب، وكان كبارنا يعلموننا الرياضة والثقافة ربما بشكل ليس ممنهجًا، ولكننا كنا نجد لديهم إجابات عن أسئلة كثيرة، وتعلمنا منهم الحركة الكشفية التى كادت تختفى من حياتنا أو أنشطة الأندية والجامعات.
قريتى فى زمانها السابق كان بها المسجد الكبير والمسجد الصغير ومسجد الزاوية، وكانت القرية تكتفى جميعها فى صلوات فجر رمضان أو الجمعة، نتقابل ونسأل عمن غاب ونزور من مرض، أحيانا نزور من توفى ونقرأ له الفاتحة، وكانت دروس العصر أو المغرب أو فى الصباح للسيدات فرصة لتعلم الدين والفقه فى العبادات.. رأيت فى قريتى الجديدة أكثر من عشرة مساجد لا يكتمل فيها صفوف حتى صلاة الجمعة، لم يعد يكتمل مسجد وأصبحت المسابقة بين ميكروفونات المساجد أكبر وأهم من المسابقة فى فكر الأئمة والمشايخ.. وأقترح هنا على الصديق الفاضل الدكتور مختار جمعة، وزير الأوقاف، وهو يعمل على تجديد الخطاب الدينى وتحديث المساجد أن يمنع صلاة الجمعة فى القرى إلا فى مساجد كبيرة، وأن يقصرها على مسجد أو مسجدين ليعيد للمسجد لقب الجامع الذى يجمع القرية ويتيح الفرصة ليلتقى أبناؤها معًا.. وأن يلحق بها مراكز لتعليم وتحفيظ القرآن بدلا من الكتاب القديم وأن يعيد للمسجد دوره الجامع بأن يكون مدرسة ومسجدًا، وأن يرتقى بمستوى الأئمة والخطباء. قريتى التى تغيرت إلى الأحدث وإن لم يكن إلى الأفضل أصبح بها محلات للملابس تعرض ملابس داخلية فى فاتريناتها، وأصبحت المحلات تملأ الشوارع، ولم أجد بها مشروعًا للتصنيع الزراعى، ولو على مستوى بسيط، ولكن أصبح بها عشرة مقاهٍ على شط ترعتها الصغيرة تستقبل شباب القرية وآخرين حتى الصباح.. وبعد أن كنا نرى فى الصباح الباكر أو المساء سيدات يجمعن بيض الدجاج أو الألبان للتجارة فيها.. رأيت التكاتك وهى تحمل المخدرات توزعها خفية أو جهرة على الشباب وعلى بعد أمتار من نقطة الشرطة.. قريتى التى كنت أذهب إليها لأعود أنا وأبناء القرية الآخرون مساء كل جمعة محملين بالقشطة والخبز ولحوم الطيور لتظل طوال الأسبوع أو الأسبوعين تعيش على خيرات القرية أصبح من الصعب أن تجد رغيفًا من خبز القرية أو سيداتها فالكل أصبح يعتمد على المخابز التى تملأ القرية.
اختفى طعم القرية القديم واختفت القرية المنتجة لتحل محلها قرية مستهلكة تأكل من المدينة لا تعرف مشروعاتها الصغيرة ولكنها تمتلك محلات كثيرة تبيع فيها منتجًا صينيًا أو تركيًا.
قريتى الصغيرة التى كنت أعشق السير على شاطئ ترعتها وأذهب للصيد بها وأتغزل فى ليلها.. أصبحت جزءًا من مدينة غير مبهجة أو مسخًا لمدينة، فلا هى أصبحت المدينة ولا عادت القرية التى كنا نحبها.. أعيدوا إلىّ قريتى وخبز أمى وراحة النفس فى صلاة الفجر بمسجدى وروعة رمضان التى فقدتها القرية ولمة أبناء القرية.