رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أكبر من حرب تجارية


نظام ودولة وحضارة، تطورت وتتطور، وصار مستبعدًا، أو مستحيلًا، أن تنهار. بل صار فى حكم المؤكد أن يواصل التنين الصينى تطوره وصعوده السريع إلى قمة النظام الدولى، اقتصاديًا، وسياسيًا واستراتيجيًا. ولا نبالغ لو قلنا إن الرئيس الأمريكى، دونالد ترامب، يعرف، قبل غيره، أن بلاده لا يمكنها الانتصار على الصين فى أى حرب: تجارية، سياسية أو حتى عسكرية.
الاستهداف الأمريكى لشركات صينية، ليس جديدًا، كما أن التحركات والتدابير التى اتخذتها الولايات المتحدة ضد «هواوى»، لم تكن هى الطلقات الأولى فى حربها التجارية والتكنولوجية ضد الصين، إذ سبق أن تم فرض قيود جديدة على الاستثمارات الصينية فى شركات التكنولوجيا الأمريكية، وقامت «لجنة الاستثمار الأجنبى فى الولايات المتحدة» بإلغاء عدة صفقات صينية، وصدر «قانون إصلاح السيطرة على التصدير». بالإضافة إلى إجراءات وتدابير أكثر تستهدف حسم المعركة التى سيطول أمدها، والتى لن تستطيع الولايات المتحدة أن تتحمل تكلفة خسارتها، لأن كسر هيمنتها على قطاع التكنولوجيا، لا يعنى فقط أرباحًا أقل، بل سيهدد أيضًا سيطرتها على «أو احتكارها» لـ«صناعة المعرفة»، وسيؤثر أيضًا على تفوقها المخابراتى والعسكرى.
الصين ما زالت تطالب الولايات المتحدة بأن تسهم بإيجابية فى النظام الاقتصادى والتجارى العالمى، واحترام قواعد التجارة متعددة الأطراف. وهناك أصوات الولايات المتحدة تحذر من خطورة (ومن نتائج) الحرب التى تشنها إدارة ترامب على الشركات الصينية. لكن يبدو أن الولايات المتحدة تريد الوصول إلى أبعد من انتصارها فى حربها التجارية ضد الصين، وربما كان الهدف الأساسى هو محاولة إثبات أن صعود الاقتصاد الصينى لم يكن سلميًا، أو نظيفًا، أو التشكيك فى أى دور محتمل لبكين فى الشئون الدولية. ولاحظ أن الاتهامات المرسلة التى تم توجيهها لشركة «هواوى» بالتبعية للمخابرات الصينية، سبقتها اتهامات ودعاوى قضائية تتهم شركات التكنولوجيا الأمريكية، بأنها ساعدت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية فى التجسس على كل شعوب العالم، ومواطنى الاتحاد الأوروبى تحديدًا.
من تلك الزاوية، يمكنك التعامل مع ماسورة قضايا التجسس التى انفجرت، والتى انتهت أحدثها بأن عاقب القضاء الأمريكى، الأسبوع الماضى، كيفن مالورى، الضابط السابق فى وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA)، بالسّجن لمدة 20 سنة، بتُهمة التجسّس لصالح الصين. بعد إدانته ببيع «معلومات دفاعيّة»، مقابل 25 ألف دولار، تقاضاها من المخابرات الصينية، خلال رحلتين قام بهما إلى شنغهاى فى مارس وأبريل 2017. وكانت بين أدلة الإثبات رسالة كتبها مالورى لضابط مخابرات صينى فى 5 مايو 2017 جاء فيها: «أعرف أن هدفكم هو الحصول على معلومات، أما هدفى فهو تقاضى المال». وقبل أن تتشكك فى القوى العقلية للرجل، نشير إلى أنه كان ضابطًا فى الجيش الأمريكى، ثم عمل فى وزارة الخارجيّة الأمريكية قبل أن ينضم إلى الـCIA، ويشغل مواقع تتيح له الوصول إلى معلومات تصنيفها «سرّية للغاية».
لم يكن مالورى غير واحد من عشرات المسئولين الأمريكيين الذين تم اتهامهم (وإدانتهم) بالتجسس لحساب الصين. بداية الشهر الجارى، اعترف جيرى شون شينج لى، العميل السابق بالوكالة نفسها، بالتجسس لحساب الصين، بعد أن تم إلقاء القبض عليه فى يناير 2018 بتهمة تقديمه معلومات للمخابرات الصينية، منذ 2010، مكنتها من الإيقاع بشبكة من عملاء المخابرات الأمريكية فى الصين. والشهر قبل الماضى، شهر مارس، أقر رون هانسن، المسئول السابق فى وكالة المخابرات المركزية، بأنه باع معلومات سرية إلى بكين. والشهر الماضى، اعترفت كانديس مارى كليبورن بأنها عملت لحساب المخابرات الصينية.
كليبورن، موظفة سابقة فى وزارة الخارجية الأمريكية، اعترفت بأنها منحت عميلين صينيين معلومات ونسخًا من وثائق داخلية تتعلق بالاستراتيجيات الاقتصادية الأمريكية، مقابل مبالغ مالية وهدايا بعشرات آلاف الدولارات، وشقة مفروشة بالكامل، ورحلات سفر دولية، ومنحة دراسية فى مدرسة للأزياء الصينية. ومن البيان، الذى أصدرته وزارة العدل الأمريكية، عرفنا أن «كليبورن»، بدأت العمل بوزارة الخارجية سنة ١٩٩٩ وشغلت مناصب فى عدد من سفارات وقنصليات الولايات المتحدة، بينها السفارة الأمريكية فى بكين وقنصليتها فى شانغهاى. كما عرفنا أيضًا أن «كليبورن» حاولت تضليل المحققين بشأن اتصالاتها بالعميلين الصينيين، وأمرت المتواطئين معها بحذف الأدلة التى تربطها بهما، لكنها أقرت فى النهاية بتهمة التآمر.
.. وأخيرًا، يبدو أن عملاء الصين، داخل الولايات المتحدة أو خارجها، كسالى أو «مش شايفين شغلهم»، فلم نجد وسائل إعلام تشكك فى القضايا السابق ذكرها أو غيرها، كما لم تمتلئ شبكات التواصل الاجتماعى بتدوينات وتغريدات تتهكم (أى تسف) على تلك القضايا، أو تراها دليلًا على أن «نظرية المؤامرة» أكلت دماغ الأجهزة الأمنية والمخابراتية الأمريكية.