رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«عاش هنا» وذاكرة الوطن


«آفة حارتنا النسيان»، هكذا عبَّر كاتبنا الكبير نجيب محفوظ عن مشكلة كبرى تعانى منها مجتمعاتنا العربية وهى ضعف الذاكرة الوطنية وتأثير ذلك على الوعى التاريخى لدى الأجيال العربية.

كان من أهم تجليات ضعف الذاكرة الوطنية إهمال ما تعرفه المدارس التاريخية الغربية بذاكرة المكان، على الرغم من أن تاريخنا العربى الإسلامى عرف ذلك جيدًا من خلال ما عُرف بـ«الخطط»، هى دراسات المكان تاريخيًا، كما اهتمت كتب التراجم «السير» ببيان العلاقة بين الإنسان والمكان.
وأتذكر أثناء جولاتى فى العديد من المدن الأوروبية أننى كثيرًا ما شاهدت لافتات على أبواب بعض المنازل، وعندما أقترب منها أجد صفحة من التاريخ عن شخصية مهمة عاشت فى هذا المكان. وكم كان حزنى وألمى عند عودتى إلى الوطن، وأثناء جولاتى فى القاهرة وبعض المدن الكبرى أجد تجاهلًا تامًا لحفظ ذاكرة المكان. وكان هذا ينعكس على طلابى فى قسم التاريخ، فلا واحد منهم يعلم أين منزل جمال عبدالناصر، ولا أين كان منزل أم كلثوم، وكانت الطامة الكبرى لدى الطلاب فى بقية الكليات، فعندما تسأل أحدهم عن عباس العقاد لا يعرف مَنْ هو ولا أين عاش، كل معلوماته عنه أنه شارع تجارى فى مدينة نصر، وكذلك الحال مع مصطفى النحاس ومكرم عبيد.
وكتبت كثيرًا حول هذه الظاهرة وخطورتها ليس فقط على ذاكرة المكان، ولكن على ذاكرة الوطن كله، وعلى وعى أجيال قادمة، من هنا كانت سعادتى أن تُطلِق هيئة التنسيق الحضارى هذا المشروع الحضارى التاريخى الكبير «عاش هنا»، وكم كانت سعادتى عندما طلبوا منى الاشتراك فى اللجنة العلمية لهذا المشروع. وحرصًا من التنسيق الحضارى على ألا يقتصر المشروع على الشخصيات السياسية فحسب، ضمت فى عضويتها المهتمين بالتاريخ والعمارة والأدب والفن، فى إشارة مهمة إلى أن رموز الوطن ليسوا فقط رجال السياسة، ولكن الأدباء والفنانين والصحفيين وغيرهم، وكانت هذه رسالة أن وعى الأمة وتاريخها لا تصنعه السياسة فقط، بل ربما يلعب الفن والأدب الدور الأهم والأكبر فى تشكيل هذا الوعى.
وحرصت اللجنة أيضًا على أن تضم قوائم الشخصيات نساءً ورجالًا، لبيان أهمية المرأة فى تاريخنا، كما احتفت اللجنة بالشخصيات الوطنية دون تمييز دينى، أقباطًا ومسلمين، وحتى المصريين من ذوى الأصول الأجنبية، كم كانت فرحتى بضم رائد فن الكاريكاتير الفنان صاروخان المصرى الأرمنى إلى قائمة المحتفى بهم، إنها مصر التى لا تنسى أبدًا أولادها.
كما لم يقتصر المشروع على مدينة القاهرة إذ خرج إلى المحافظات، فوصل حتى الآن إلى مدينتى الإسكندرية وطنطا، ولم يقتصر على أجيال معينة وأهمل الشباب، إذ كان تكريم أحمد خالد توفيق بمثابة جرعة أمل للكثير من الأدباء الشبان.
ولا يقتصر المشروع على مجرد لوحة توضع على منزل الشخصية التاريخية تقول «عاش هنا» بها تاريخ الميلاد والوفاة ومجال العمل والإبداع فقط، ولكن ترتبط كل لوحة بشبكة الإنترنت عن طريق رمز استجابة سريع «QR code» يتيح معلومات تفصيلية عن الشخصية التاريخية وأعمالها وإنجازاتها، فى محاولة لدعم الثقافة التاريخية وحفظ ذاكرة الوطن.
«عاش هنا» مشروع يؤكد أن مصر ستبقى دائمًا «فيها حاجة حلوة».