رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عايدة فى الليالى البيض


مصر القديمة، قبل ميلاد المسيح بـ٢٥٠٠ سنة. أميرة حبشية أسرها المصريون خلال غزوهم الحبشة. الجيوش الإثيوبية تعيد حشد قواتها لتنتقم. القائد المصرى راداميس يقع سرًا، فى حب الأسيرة الحبشية. القوات المصرية تستعد لمواجهة العدو القادم من الجنوب. الكاهن رامفيس يلتقى راداميس فى بهو القصر الملكى ليناقشه فى الحرب المقبلة.
بعد هذه الافتتاحية (Overtue) تبدأ «أوبرا عايدة»، التى سيقدمها نجوم الأوبرا العالمية، آنا نيتريبكو، يوسف أيفازوف، يفجينى نيكيتين، ويكاترينا سيمينتشوك، فى ٨ يونيو القادم، على مسرح «ماريينسكى» الرئيسى، ضمن فعاليات مهرجان «نجوم الليالى البيض» للفنون، الذى تم افتتاحه، الأربعاء، فى مدينة بطرسبرج الروسية، بحفل كبير تضمن الموسيقى السيمفونية الثامنة لـجوستاف مالر، وقداس لإحياء ذكرى الموتى لـروديون شيدرين، وكونشيرتو البيانو والأوركسترا ليوهان سيباستيان باخ، وغيرها من المؤلفات الموسيقية الشهيرة.
المهرجان الذى يستمر حتى ٢١ يوليو المقبل، يرأسه فاليرى جيرجييف، فنان الشعب الروسى، المدير الفنى لمسرح ماريينسكى فى بطرسبورج، الذى صار أغنى فنان روسى، طبقًا لما سبق أن ذكرته وكالة «نوفوستى» الروسية. وما يعنينا فى المهرجان كله، هو أن فرقة أوبرا مسرح ماريينسكى ستقدم أوبرا «عايدة» التى تم عرضها لأول مرة فى القاهرة فى ٢٤ ديسمبر ١٨٧١، ثم كان عرضها الثانى فى فبراير ١٨٧٢ فى إيطاليا. قبل أن تعرضها باريس بديكورات وملابس جديدة، أثارت دهشة «فيردى» نفسه، طبقًا لما ذكره الكاتب والمؤرخ الفرنسى روبير سوليه فى كتابه «مصر ولع فرنسى»، الذى أوضح فيه أن مسرح «جارنييه»، لم يستفد فقط من كتاب «وصف مصر» لإعادة تقديم العمل بطريقة أكثر دقة، بل استعان أيضًا بجاستون ماسبيرو، عالم الآثار الشهير، وبأوجين لاكوست، أبرز مصممى الأزياء الفرنسيين فى ذلك الوقت.
لم يتم عرض أوبرا عايدة فى افتتاح دار أوبرا القاهرة، الأوبرا القديمة أو الخديوية، أول دار أوبرا فى إفريقيا والشرق الأوسط، إذ كان عرض الافتتاح الذى شاهده ضيوف حفل افتتاح قناة السويس، هو أوبرا أخرى لجوزيبى فيردى هى «ريجوليتو» المأخوذة عن قصة «الملك يلهو» لفيكتور هوجو. ومنذ عرضها الأول فى ٢٤ ديسمبر ١٨٧١، ظلت دار الأوبرا الخديوية، تقدمها سنويًا، لمدة ١٠٠ سنة، حتى احترقت سنة ١٩٧١، لتظل القاهرة دون «أوبرا عايدة» ودون دار أوبرا من الأساس، حتى سنة ١٩٨٨ التى شهدت افتتاح دار أوبرا القاهرة، بموقعها الحالى بالجزيرة، التى أصبحت بفضل الله ودولة اليابان (الشقيقة) إحدى معالم القاهرة الثقافية.
تعرف، بالتأكيد أو على الأرجح، أن فيردى هو مؤلف أوبرا عايدة، وهو طبعًا ملك الأوبرا، وأبرز مؤلفى الأوبرا الإيطاليين فى القرن التاسع عشر الميلادى، وإلى الآن، يتم تقديم أعماله أكثر من أعمال أى مؤلف أوبرا آخر. لكن نادرًا ما يُشار إلى مؤلف النص، نص الأوبرا، المهضوم حقه، حتى فى لافتة الشارع الذى يحمل اسمه: مارييت، أوجست مارييت، وليس «ميريت»، كما تزعم لافتة وهو عالم الآثار الفرنسى، ومؤسس المتحف المصرى، الذى كتب النص والسيناريو وصمم الملابس وديكورات العرض، إضافة إلى قيامه بوضع الخطوط العريضة لإخراج العمل الفنى.
مارييت، Auguste Mariette، الذى كان فى ذلك الوقت مديرًا للآثار المصرية، له كتاب عنوانه «خطابات وذكريات شخصية» صدر فى باريس سنة ١٩٠٤، تضمن رسالة إلى شقيقه إدوار، قبل افتتاح قناة السويس بخمسة أشهر، جاء فيها: «تصور أننى كتبت أوبرا. إنها أوبرا كبيرة سيضع فيردى موسيقاها، نعم.. لا تضحك إنها حقيقة». ومنطقى جدًا أن يستنتج سوليه، وغيره، أن مارييت اختار اسم عايدة عنوانًا لعمله، نظرًا لما يحمله الاسم من دلالة مصرية. كما يمكن استنتاج أنه سرد الأحداث دون التقيد بفترة زمنية محددة، ليعطى لنفسه حرية التحرك، وإن كان كثيرون يربطون الأحداث بفترة حكم الملك رمسيس الثالث.
إلى «كاميى دو لوكل»، مدير «أوبرا كوميك» فى باريس، أرسل مارييت نص الأوبرا، لتجزئته إلى فصول ومشاهد، وبعد ترجمة النص إلى اللغة الإيطالية، قام الشاعر الإيطالى أنطونيو جيزلانزونى بكتابة النص الغنائى (الليبرتو). ونيابة عن الخديو، قام مارييت بتوقيع العقد مع فيردى مقابل ١٥٠ ألف فرنك فرنسى ذهبًا، بينما تكلف تصميم الديكور والملابس نحو ٢٥٠ ألف فرنك. وهى، قطعًا، أرقام فلكية، لو كان الخديو إسماعيل أنفقها على إطعام الشعب الجائع، الجائع حرفيًا، وقتها، ما ظهرت «أوبرا عايدة» وما ظهرت عشرات الأعمال العظيمة المستوحاة من التاريخ المصرى القديم، وما كنا التفتنا، اليوم، إلى مهرجان «نجوم الليالى البيض» للفنون، الذى تم افتتاحه، الأربعاء، فى مدينة بطرسبرج الروسية!.