رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"ولى ومريد"..

ابن عطاء الله السكندرى.. القمر الإسكندرانى


أشعر بأننى أظلم أولئك الأولياء العارفين بذلك الاختصار الذى أراه مُخلًا، والحق أن كل واحد منهم يستحق منّى كتابًا، فهل أستحق أنا شرف الكتابة عنهم؟ هذا هو ما أنتظره من عطاء الله، وأول من أطمع فى شرف الكتابة عنهم هو سيدى «ابن عطاء الله السكندرى» الذى فارق دنيانا ذات يوم، وترك لنا قبسًا من نور حكمته، وحين يظن أصحاب الظنون أن ابن عطاء الله نأى عنا، وابتعد عن دنيانا حين مات، أردد مع شىء من التصرف ما كتبه حافظ لشوقى الذى كان يشكو البُعاد عن مصر: «لم تنأ عنا وإن فارقت دنيانا.. وقد نأينا وإن كنا مقيمينا»..

لم ينأ السكندرى عنا ومقامه عند سفح جبل المقطم يعرف زائروه أنه ساحة للراحة والهدوء والطمأنينة، لم ينأ عنا، وكتبه تشع أنوار الحكمة، من أراد أن يقتبس منها فقد أوتى خيرًا كثيرًا.
ولكى نكون على بينة من أمرنا أقول لكم إن شيوخ السلفية من عصر ابن تيمية إلى الآن وهم يشنون هجومًا ضاريًا على ابن عطاء الله السكندرى، ويعتبرونه من أهل الكفر، لماذا؟ لأنه يقول كلامًا لا يعرفونه ولا يفهمونه، والإنسان عدو ما يجهل، وقلوب الشيوخ التى تعودت على إباحة الدماء وقتل العباد تبغض من يعذر الناس، وتُكَفِّر من يترك أمرهم لله، اخترعوا لنا حدًا نسبوه لله، هو حد الردة، وفيه يجب أن يُقتل من يترك الإسلام، والله لم يقل ذلك أبدًا، بل قال «فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر»، وقال «لا إكراه فى الدين»، أى أن العقيدة ليس فى داخلها منظومة للإكراه على شىء، وهم يُكرهون من يريد ترك العقيدة إلى غيرها، فيخاف الحدَ ويظل فى عقيدتنا مُكرهًا.
والآن نترك هؤلاء فى حالهم بعد أن ندعو لهم بالهداية، وأن يفتح الله مغاليق قلوبهم لأنوار رحمته، ونذهب إلى الحكيم الفقيه الولى «أحمد بن محمد بن عطاء الله السكندرى»، وقد كان مولده فى الإسكندرية بعد عامين بالتمام والكمال من وفاة سيدنا أبى الحسن الشاذلى، حينها كان مولانا أبوالعباس المرسى فى الثانية والأربعين من عمره، وكما كان الشاذلى ينتظر تلك اللحظة التى سيقابل فيها أبا العباس المرسى، ومن أجله عاد إلى تونس، كان أيضًا مولانا أبوالعباس المرسى ينتظر تلك اللحظة التى سيقابل فيها ابن عطاء الله السكندرى، إذ هى حلقات موصولة إلى يوم الدين، والله لا يقطع العطاء عنا لذلك كان ابن عطاء الله.
لم يكتب أحدٌ شيئًا ما عن حياة ابن عطاء الله السكندرى إلا الشىء اليسير، ولولا أنه كتب عن شيخيه كتابه الشهير «لطائف المنن فى مناقب الشيخ أبى العباس المرسى وشيخه الشاذلى أبى الحسن» لما وصل إلينا معظم ما عرفناه عنهما، ولكننا من خلال كتابه هذا نتلمس قبسًا من سيرته، فنعرف أنه فى الأصل من قبيلة جذام العربية التى كانت من شمال الجزيرة العربية، وجاء جدوده إلى الإسكندرية فى سابق الأزمان، وأصبح جده لأبيه من فقهاء المذهب المالكى، ونشأ ابن عطاء الله فى معية جده فحفظ القرآن صغيرًا ودرس الفقه ثم أصبح عالمًا من علماء المذهب المالكى، إلى أن التقى أبا العباس المرسى، فانجذب إليه وأصبح من المقربين منه، ونهل منه المعارف، ونال من فيوضاته، حتى أصبح من أقرب المقربين منه، وحينما مات شيخه توجه ابن عطاء الله إلى القاهرة وقام بالتدريس فى الأزهر، وكان يقوم بالتدريس وهو جالس على كرسى، ثم كتب من الكتب كذا وكذا، وأهم كتبه «الحكم العطائية»، وقال عنه معاصروه إنه إمام علم الظاهر وعلم الحقيقة، وإن الدهر قد بخل علينا فلم ينجب لنا من يماثله فى العلم، ثم مات ابن عطاء الله فى يوم كذا ودفن فى مقبرته التى فى سفح جبل المقطم، وأقام عليها الشيخ عبدالحليم محمود مسجدًا هو مسجد سيدى ابن عطاء الله السكندرى.
هذه هى سيرته مع شىء من الاختصار، ولكن أقسم عليكم بالله هل من خلال هذه السيرة تعرفتم على حكيم زمانه ابن عطاء الله السكندرى؟! أنا أعرف الإجابة مسبقًا لذلك سنتحرر قليلًا من تلك الكلمات الجافة لننطلق مع ابن عطاء الله الذى ولد فى الإسكندرية، وما أدراك ما الإسكندرية؟! وبحرها الممتد بلا حد، ونجوم السماء تتلألأ فوق بحرها يكاد المرء يمد يده إلى السماء فيخطف نجمة من نجومها من فرط ظهورها، هذا جمالٌ ما بعده جمال، هذه هى المرئيات التى تفتحت عليها عين ابن عطاء الله منذ أن وُلِدَ، الكون مفتوحٌ أمامه، والمرئيات تدعوه للتأمل والبحث فيما وراء هذه المرئيات، هذا هو الظاهر، ولكن لكل ظاهر باطن، قد تعرِف الظاهر وتتقِن تفاصيله، ولكنك لن تعرف الباطن إلا إذا تجاوزت الظاهر، فالبحر قد ترى أمواجه وهى ترتفع، وترى ماءه وهو يجرى إلى الشاطئ ثم يعود إلى حيث كان، ولكنك وأنت ترى ظاهر البحر لم تر باطنه، ولكى تراه يجب أن تغوص فيه، وكلما غُصت رأيت.
يقينًا كان لتلك البيئة بجمالها وسحرها أثرها الكبير على شخصية ابن عطاء الله، لا نقول ذلك جزافًا أو رجمًا بالغيب، ولكننا ننظر إلى المآلات لنعرف المقدمات، فالرجل لا يمتلك ملكة التأمل والتفكر وهو كبير، ولكنها مَلَكة تصاحبه منذ تكوينه الأول، بل قبل أن ينطق لسانه الكلام، وبيئته التى تفتحت عليها عيناه كانت أفضل بيئة تُنمى فيه تلك الملكة، أضف إلى هذا أن الإسكندرية كلها كانت آنذاك عاصمة مصر فى الثقافة والفقه والتصوف، ولأن جده كان من كبار فقهاء المذهب المالكى فقد تعهده بالرعاية وذهب به إلى أحد الكتاتيب ليحفظ القرآن، ولكن أين كان والده آنذاك؟! كل ما استطعت الوصول إليه، بعد بحث طويل، أنه مات حينما كان مولانا ابن عطاء الله ابن خمس سنين، لذلك لم يكن فى ترجمة حياته أى ذكر لأشقاء له، ويبدو أن وفاة والده تركت فيه أثرًا كبيرًا، والموت إذا دخل حياة الأطفال كان محركًا خيالهم، وكلنا نعرف أنهم حينئذ يتساءلون: أين ذهب حبيبُنا الذى تقولون إنه مات؟! وتأتى الإجابة: ذهب إلى الله، أو ذهب إلى السماء، أو ذهب إلى الجنة، ولكن من الله؟ وما السماء؟ وأين الجنة؟ وتظل الأسئلة تقتحم خيال الصغير وهو لا يجد إجابة لها.
ويذهب طفلُنا «أحمد بن محمد بن الشيخ عبدالكريم بن عطاء الله» إلى الكُتَّاب، ويبدأ فى حفظ القرآن، وتأخذ الآيات الأولى التى كان يحفظها خياله وقلبه، ويحمل طفلُنا أحمد اللوح الذى كتب فيه ما قرره شيخُ الكتاب عليهم من القرآن ليحفظه فى خلوته، وفى غضون عامين أتمّ طفلنا حفظ القرآن كله، ونبغ عن باقى الأطفال وتفوق على من سبقه فى العمر منهم، وفوق ذلك أجاد النحو والصرف، وهنا رأى الجد أن يذهب إلى ابن عمه قاضى الإسكندرية وفقيهها الكبير الشيخ ناصر الجذامى وبيده حفيده أحمد، ولكن لماذا ذهب به إلى هذا الشيخ؟ سنعرف هذا فى الحلقة القادمة.