رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بضاعة سامة ملفوفة فى ورق سوليفان


أعتقد أن من أسباب تخلّف مجتمعاتنا الرئيسية أنها أسيرة مجموعة من العادات والتقاليد «الشاقة» و«المؤبدة»، يُطلق عليها اسم «الإرث المقدس»، الخطوة الثانية، الأكثر خطورة، هى القول بأن هذا الإرث المقدس، من العادات والتقاليد، هو «هوية الوطن»، و«خصوصية المجتمع».

النتيجة الطبيعية المنطقية أن أى مواطنة، أو مواطن، يطالب بتغيير هذه العادات والتقاليد حتى تلائم تغيرات الحياة، والبشر، وتساعد على النهضة والتقدم، والمزيد من الحريات، والعدالة، يُتهم فورًا بأنه يريد «مسح» هويتنا و«تدمير» خصوصيتنا، وأنه «عميل» للغرب الاستعمارى الكافر، المنحل، وأنه «ترس» صغير فى مؤامرة عالمية كبرى، أجندة مشبوهة الغرض والتمويل، للنيل من إسلامنا.
كل هذه الاتهامات الأخلاقية المعلّبة الجاهزة لا يوجد أى دليل حى، أو ميت، يثبت صحتها.. غاية الأمر، أن هناك مواطنة، أو مواطنًا، تجرأ على ما لا يجوز «التجرؤ» عليه فى وضح النهار، وعلى الملأ، دون أدنى حياء.. بل على العكس، فالأدلة المادية الملموسة، والمقروءة، والمسموعة، والمرئية، هى التى تثبت، وعلى الملأ، أننا ما زلنا نستهلك عادات وتقاليد الموتى على مر الأزمنة.
وما نشهده من ردة ثقافية، ونكسة حضارية، وتأخر فكرى، وتعصبات دينية، وعداوات طوائفية، وتضخمات ذكورية ضد النساء، هو نتيجة مباشرة للجمود وعدم التفاعل مع تغيرات الحياة، والتوقف عند أزمنة تخاصم التجديد، وانتهت تاريخ صلاحيتها.. وأنا لا أفهم مقولة: «نتغير دون المساس بالعادات والتقاليد التى تربينا عليها»، هذه المقولة هى صلب وقلب الإرهاب الفكرى، والإرهاب الدينى، والإرهاب الثقافى، الذى يستخدم لتكفير الناس وتشويه سمعتهم والتشويش على آرائهم الجديدة، المجددة.. هى تهدد فى الصميم «لقمة عيش» البعض.
نعم.. فإن التخلف، والأفكار السلفية الرجعية الصحراوية الرملية، وما يلازمها من أزياء صحراوية، ومفاهيم قاسية التزمت، منفرة التطرف، فاجرة الذكورية، أصبحت «شغل» الكثيرين، وهى «بيزنس» رائج يدعمه مشايخ، ودعاة، ومفكرون، ودول، وتنظيمات، وجمعيات، ومراكز، تلتقى كلها فى ترسيخ النظام العالمى الحالى، وهو تحالف الرأسمالية المتوحشة مع الصهيونية، مع الوهابية، مع التسلح، مع الذكورية.
والآن، يعتذر واحد من هؤلاء الدعاة الصحراويين عن أفكاره المتطرفة المتزمتة، التى أفسدت عقول ونفوس وقلوب ملايين الشباب، والنساء، وأدت إلى سفك الدم فى كل مكان، يعتقد أن الأمر بهذه السهولة.. من هنا نفهم الحرب الضارية التى تنتظر كل إنسان يخلخل هذا التحالف، ويفضحه، ويفلس بضاعته الفاسدة الدموية.. بضاعة تقتلنا بكل الوسائل، لكنها ملفوفة فى ورق سوليفان، معطر، ملون.. إن خلخلة هذا التحالف ربما تبدأ من أى اتجاه، لكنها بالتأكيد لا بد أن تمر من «فضح» الإرث المقدس للعادات والتقاليد، التى تتخفى تحت مبررات ثقافية، أو دينية، أو أخلاقية.
أنا لا أفهم كيف نتغير دون المساس بالعادات والتقاليد، كما يردد أغلب أعضاء، وعضوات، الدفاع عن التحالف الذى يخنقنا، ويأكل مواردنا، ويزدهر على حساب موتنا، وتغطيتنا، وحريتنا؟.. العادات والتقاليد هى التى «تشكل» الحياة بكل تفاصيلها، وفى جميع مجالاتها.. العادات والتقاليد هى التى تعكس أفكارنا، ومعتقداتنا، وقناعتنا، ومشاعرنا، وأخلاقنا، وتحيزاتنا الوجدانية.. وهى التى تنتج بالتالى الأحكام، والإدانات، والعنصريات، والتعصبات، والتحالفات السامة التى تقتل الأفراد، والشعوب. أنا أؤمن بأن ما يسمى التقدم، أو الرقى الحضارى، أو النهضة الفكرية، والثقافية التى تحررنا من هذا التحالف، أو الأخطبوط، هو بالتحديد الخروج من سجن العادات والتقاليد التى ورثناها من الموتى، والتى نمنحها، دون مبرر، «القدسية»، و«الثبات».العادات والتقاليد الموروثة ليست مقدسة، وليست ثابتة، والدليل على ذلك أن البشر، على مر العصور، قاموا فعلًا بتغيير عاداتهم وتقاليدهم أكثر من مرة، وفى كل المجتمعات.
نحن نرفض أن يتحكم الأحياء فى مصير الأحياء، كيف إذن نقبل أن يتحكم الموتى فى مصير الأحياء؟!.. لقد علمتنا الفلسفة أنه لا شىء «ثابتًا» إلا «التغير»، وعلى عكس ما يُشيعه أنصار الجمود، فإن أكثر الناس حبًا لأوطانهم هم الذين يصرون على التغيير، والتجديد.. إن البشر الذين صنعوا العادات والتقاليد هم أنفسهم يتغيرون.. كيف إذن يتغير الأصل ولا تتغير الصورة؟، كيف يتغير الصانع ولا يتغير المصنوع؟، كيف لمنْ يرقد تحت التراب أن يكسر أجنحة منْ يريد التحليق للسماء؟.
من بستان قصائدى
أنا على أتم استعداد أن أصوم وبدون سحور
ليس فقط فى رمضان ولكن فى كل الشهور
إذا خالجنى شك بسيط أن وجبة الإفطار الشهية
التى تنتظرنى هى «أنت».