رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ولى ومريد «12»

أبو العباس المرسى.. «سكردان الأولياء»


عرفنا فيما مضى من الأحداث أن مولانا «أبوالحسن الشاذلى» بعد أن حج إلى بيت الله الحرام، قفل راجعًا إلى تونس، التى كان قد ضاق مقامه بها، وتعجبنا كيف يعود إلى البلد التى كاد له فيها قاضيها «البراء»، ولكن زال عجبنا عندما عرفنا أنه عاد؛ لأنه وعد حاكم تونس السلطان «أبو زكرياء الحفصى» بالعودة مرة أخرى، ومن يسير فى طريق الله لا يخلف وعده أبدًا، ولو كان فى أداء وعده حياته كلها.
لكن كان للعودة سببٌ آخر لم يُعرف حينها، فقد كان هناك فتى يصارع الأمواج والأنواء قرب شواطئ تونس؛ حتى كاد أن يهلك ومعه شقيقه الأصغر، ولكن بقدر الله امتدت لهما يدُ النجاة، إذ إن هذا الشاب سيصبح فى مستقبل الأيام من أصحاب المقامات الرفيعة، وسنعيش معًا قصة هذا الفتى الناجى، وسنشاهده ونجلس معه ونتحدث إليه من بداية مصارعته للأمواج واستقراره فى تونس لفترة، ثم انتقاله مع الشاذلى إلى مصر حتى موته، سنعيش معه، ولكن بعد أن يفرغ منّا مولانا أبوالحسن الشاذلى ويتركنا نعيش مع ذلك الفتى، وعذرًا يا فتانا فقد فاتنا أن نذكر اسمك، ومثلك لا يُنسى أبدًا، أينسى أحدُنا مولانا أبوالعباس المرسى»؟! الذى أطلق عليه أهل الحقيقة لقب «سكردان الأولياء»، وكان أهل زمانه يطلقون على إناء السُكَّر كلمة «سكردان».
بعد سنوات قال مولانا أبوالحسن الشاذلى: من أجل ذلك الفتى عدتُ إلى تونس، وسبحانك ربى! كأن الشاذلى وصله خبر «المرسى أبوالعباس» قبل ذلك، وأرواح الأولياء تتقابل وتتعارف وتتآلف من قبل أن تتلاقى أبدانهم، ويظل الواحد منهم ينتظر حبيبه، يبحث عنه بين الوجوه، ويتنصت صوته؛ لعله يأتيه من وراء الغيب، وقلبه يشتد وجيبه شغفًا لهذا اللقاء المرتقب، إلى أن يراه فيعرفه، ولكن قبل أن نسترسل يجب أن نعرف أن القلوب التى تجتمع على محبة الله، ستتحاب فيما بينها، نعم، ولكن هذه القلوب تعلم أن محبتها لبعضها ولو فى الله لا يجب أن تكون حاجزًا بينها وبين محبة الله، فمحبة الله يجب أن تكون خالصة له وحده، حتى إن بعضهم قال: حب الله يترك فى القلب لذة، ولكننا نخاف من هذه اللذة، لأنها قد تنسينا حب الله! يا الله، ألهذه الدرجة؟ نعم، وبعضهم يقول لله وهو يناجيه: اللهم لا تجعل فى قلبى لذة لحبك حتى لا تنسينى اللذة حبك.
وبعد ذلك يسافر فتانا مع شيخه الشاذلى إلى مصر، ويستقر بهما المقام فى مدينة الإسكندرية، ويتزوج مولانا الشاذلى وينجب الأبناء ويظل ذكره بين الناس يتزايد حتى طبقت شهرته الآفاق، حتى إن سلطان العلماء العز بن عبدالسلام اجتمع مع بعض الشيوخ الكبار فى أحد المساجد وألقى كل واحد منهم درسًا، حتى جاء الدور على الشاذلى، وعندما طلبوا منه إلقاء درسه امتنع وقال: أنا بين الكبار فكيف أتكلم فى حضرتكم، لكنهم أصروا فألقى درسه، فإذا بقلوب الحاضرين تنجذب إلى حديثه، وبعد أن انتهى قال العز بن عبدالسلام وقد أخذه الإعجاب بالشاذلى: «اسمعوا الشاذلى وهو يقول هذا الكلام العجيب القريب العهد من الله».
وفى أحد الأعوام يذهب مولانا الشاذلى إلى الحج، وكان يذهب للحج كل عام، إلا أنه فى هذا العام قال لتابعه الذى لا يفارقه أبدًا: استصحب فأسًا وقفة وحنوطًا، والحنوط هو الطيب الذى يُطيَّب به الميت وكفنه، فتعجب تابعه! إن الشاذلى لم يطلب منه ذلك من قبل، ولمَّا أبدى له تعجبه، قال الشاذلى: فى حُميثرة سوف ترى، وحميثرة هذه هى وادٍ يقع بالقرب من مرسى علم ويصل إلى البحر الأحمر، ومنه كان يسافر الحجيج للحج، الآن يا مولانا جاء وقت الفراق إلى أن نلتقى فى رحاب رحمة الله يوم الدين، ففى الليلة التى وصلت فيها يا مولانا إلى حميثرة وضع أصحابك خيمتكم، وجاء الليل فأقمت الليل، ثم انتهيت من صلاتك وأخذت تذكر الله، يا الله يا الله يا الله، ثم سكت صوتك فظن أصحابك أنَّ غفوة غشيتك، وعندما أمعنوا فيك النظر أخذتهم الريبة، فقاموا بتحريكك فإذا بك قد فارقت دنيانا، فكان أن حمل تابعك الفأس، وحفر قبرك الذى أصبح مقامك الذى يزار إلى الآن من الذين أحبوك.
وعذرًا يا مولانا، فقد آن الأوان أن نعيش مع تلميذك أحمد بن عمر المرسى أبوالعباس شهاب الدين «أبو العباس المرسى» وسنعود معه إلى طفولته، حيث ولد فى مدينة «مرسية»، وهى إحدى مدن الأندلس، ويا لأقدار الله لقد ولد فى مدينة الشيخ الأكبر «محيى الدين بن عربى» نفسها، قبل أن يولد أبوالعباس المرسى بثمانية وخمسين سنة، وكان والده من التجار، وعندما وجد فيه منذ طفولته الأولى نجابة وذكاء وقوة ذاكرة وصفاء ذهن، أرسله إلى الكتاب ليحفظ القرآن ويتعلم الحساب والقراءة والنحو والفقه، وخلال عام واحد كان قد أتم حفظ القرآن، ولا تتعجب فنحن نرى أصحاب الذاكرة الفوتوغرافية وهم يدهشوننا بذاكرتهم، وبهذه الذاكرة تميز فتانا، وبرع فى الفقه والحساب وأصبح هو الأول بين أقرانه، وعندما شب عن الطوق قليلًا أشركه والده فى إدارة تجارته، ليكون يدًا لأخيه، فكان أن ترك هو وشقيقه سيرة حسنة بين أهل مرسية، ولكن الله قضى أمرًا لم يكن فى حسبان أحد، وعندما تنزل بنا النوازل نظنها شرًا، فخبرها يكون ظاهرًا، وأثرها يكون غائبًا، وما ندرى أن الله وضع لنا بها مكافأة.
هل الحج لبيت الله نازلة؟ يجب أن يسكت الكلام إذا قلنا ذلك، ولكن كونوا معنا خطوة خطوة، قرر والد أبى العباس المرسى أن يأخذ أسرته كلها ويذهب بهم لحج بيت الله الحرام، وخرج موكب المودعين والمهنئين يزفهم إلى السفينة التى ستحملهم، وأصوات المودعين تصدح بالدعاء لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، وكل واحد من الأصحاب يطلب من رب هذه الأسرة طلبًا، هذا يطلب مسكًا وذاك يطلب ثوبًا وتلك تطلب أثرًا من كساء الكعبة تتبرك به، وكلهم يطلبون منه ومن ولديه الدعاء لهم أمام الكعبة، والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام قبره فى المدينة، والأب الطيب يتهلل وجهه بالسعادة، ويقف ابناه إلى جواره يساعدانه ويساعدان أمهما على الصعود إلى السفينة وترتيب أمر حقائبهم وحاجياتهم، وتمخر السفينة عُباب البحر، وتمر الساعات والساعات، وبالقرب من شواطئ تونس إذا بالأنواء والأمواج تتلاعب بالسفينة، وتتعالى الصرخات، وتضطرب الأفئدة، ويلجأ الجميع إلى الله، هو المغيث الذى أرسل حوتا ليونس من أعماق البحر، فكانت نجاة يونس فى أداة هلاكه التى ابتلعته، أغثهم يا الله، ففيهم ناسٌ قصدوا زيارة بيتك المحرم.
ولكن كيف كان حالك يا زينة الشباب وقتها؟ أكنت مضطرب الفؤاد أم أن الله أرسل إليك شآبيب الطمأنينة؟ أظنك كنت مشغولًا بوالديك تستنهض أخاك ليقف معك وأنت تبحث لهما عن نجاة، ولكن السفينة تكسرت، وأصبحت يا ولداه مجموعة من الألواح، وأخذت الأمواج تحمل الركاب وتهوى بهم إلى قاع البحر، فهل سنعرف مصائرهم فى المقال التالى؟.