رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أبوالحسن الشاذلى.. فقيه الأولياء



هيا بنا نسمع قطب العارفين ابن عطاء الله السكندرى، ولكن من هو ابن عطاء هذا وما هو خبرُه؟ قطعًا سيأتى الوقت لنتحدث عنه، ولنختصر الكلام ونقول إن ابن عطاء الله السكندرى هو تلميذ المرسى أبوالعباس، وستعرفون أيضًا أن المرسى هو تلميذ مولانا أبى الحسن الشاذلى، وسنقف عند مقولة رواها ابن عطاء الله عن المرسى أبوالعباس، الذى رواها عن أبى الحسن الشاذلى، وهى: «لا يكمل عالم فى مقام العلم حتى يبتلى بأربع، شماتة الأعداء، وملامة الأصدقاء، وطعن الجهال، وحسد العلماء».
أصيب الشاذلى بتلك الابتلاءات، فما إن ذاع صيته فى تونس، وأصبح خليفة لأبى سعيد الباجى، وسعى المريدون إليه يبتغون منه الارتقاء، إلا وحسده علماء الظاهر الذين لا يعرفون شيئًا عن علم الباطن، ورغم أن الباجى قبل موته قال للشاذلى: لقد اكتمل لك علم الظاهر والباطن، واستطاع أن يُفحم أكبر علماء الشريعة حين تقع المناظرة بينهما، فلم يستطيعوا مجاراته فدسوا له عند الحاكم وأخبروه أن الشاذلى هذا زنديق، وأنه جاء من المغرب ليفتن الناس فى دينهم، والحاكم «أبوزكرياء الحفصى» لم يسبق له أن استمع للشاذلى، ورغم أنه كان من أهل العدل والحلم، وكان حاكمًا قويًا، أسس فى تونس حكم الدولة الحفصية، وفى عهده وصلت تونس إلى مراتب عليا فى القوة، واستطاع أن يُدبر أمور المال حتى عمّ الخير تونس- فإنه استجاب لتلك الدسائس وقرر محاكمة الشاذلى.
مالك يا مسكين تقع فى الابتلاءات! مالك يا شاذلى والجند يجرونك جرًا لمجلس القضاء، لم تجزع، ولم تصرخ، بل احتفظت بهيبتك، ورفعت رأسك شامخًا مبتسمًا وكأنك ستزف إلى عروسك الآن، والله لو كان عندهم دين لوقعوا على رءوسهم من هول ما دبروا لك، هو القاسم ابن البراء الذى كاد لك، وابن البراء هذا سيقابلنا فى كل عصر، ولكننا لن نقابل أمثال الشاذلى إلا إذا قدَّر الله لنا مثل هذا اللقاء، وستعجبون مثلى عندما تعرفون أن الشاذلى لم يسكن فى بيتٍ من بيوت تونس، ولكنه أقام فى مغارته بالجبل، وكانت حياته فى هذا الجبل هى حياة زهد وتقشف، وفيه كان يعيش فى ملكوت آخر غير الملكوت الذى نعرفه، كان يعيش فى آفاق لا نقدر على الوصول إليها، ويروى أحد تلاميذه أنه صاحبه فى الجبل أربعين يومًا، ولم يكن الشاذلى يأكل إلا أوراق النباتات، حتى تشققت شفتاه، وعندما نظر الشاذلى إلى حال تلميذه وجده لا يقدر على الاستمرار، فقال له: «سننزل غدًا إلى شاذلة وستقابلنا كرامة، ونزلا فقابلهما أحد تلاميذه فاستضافهما وأكرمهما».
وفى مغارته هذه ذهب إليه جند الحاكم يأخذوه جرًا لكى تتم المحاكمة فى مجلس الحاكم «أبى زكرياء الحفصى» وبحضوره، وتهمة الزندقة والإلحاد تحاصره، فكان أن أبقاه الحاكم فى السجن فترة قبل المحاكمة يرسف فى الأغلال، إلى أن قرر عقد المحاكمة فأخرجوه من سجنه وأحضروه إلى مجلس الحاكم، وجلس الحاكم وراء ستار، والبراء ومعه مجموعة من العلماء التابعين له يناظرون الشاذلى، ويسألونه عن نسبه، فيجيب، ونسبه ينتهى إلى السيدة فاطمة، رضى الله عنها، ثم رسول الله، فترتفع أصوات القوم ويقولون له بأصوات صاخبة ليسمع الحاكم: أنت من الفاطميين إذن، والفاطميون كانوا خصومًا للدولة الحفصية، وظنوا أنهم بذلك يوغرون صدر الحاكم على الشاذلى، ثم أخذوا يناظرونه فى الدين، فانطلق محلقًا إلى آفاق لا يعرفونها، وكانت فصاحته وقوة حجته تدل على أنه الرأس فى علوم الشريعة، فلم يستطع الحاكم أبوزكرياء أن يخفى إعجابه، فخرج من وراء الستار وهو يقول للكائدين: «هذا رجل من أكابر الأولياء، وما لكم به طاقة».
نصرك الله يا شاذلى عليهم، وأبان حجتك وقدرك، فأطلق الحاكم سراحك واسترضاك، وخرجت من مجلس الحاكم رافع الرأس مبتسمًا كما دخلت، لم يتغير فيك شىء، ولكنك يا سيدى رأيت أن المقام لن يتسع لك فى تونس، ومثل البراء وأصحابه سيستمرون فى كيدهم، فذهبت إلى الحاكم تستأذنه فى الخروج من تونس، فغضب لك ذلك الحاكم العادل، وقال: ماذا يقول الناس عن تونس، لجأ إليها أحد الأولياء فضاق أهلها به، فخرج فارًا بنفسه، والله لا نتركك أبدًا وأنت فى أمان معنا، ولكن الشاذلى يهفو إلى التطواف والترحال، وقد طالت إقامته فى تونس، وكان لا بد أن يذهب، فقال للحاكم: سأذهب للحج ثم أعود مرة أخرى.
أَنْظرُ إلى قصتك يا مولانا وأنا لا أستطيع التعبير عما فى داخلى من مشاعر، إذ تضيق منّى العبارات، وتطير الكلمات، فأترك الكتابة قليلًا لأستروح بروحى نسمات سيرتك، وكلما رأيتك بعين قلبى حملتك فى فؤادى، وبعدها أذهب إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام حبيبى ومولاى وطريق هدايتى، فأستروح نسمات سيرته العطرة التى اجتهد بعض المسلمين للأسف فى تشويهها وتزويرها، فأعود سريعًا إليك يا مولانا، فيخيل إلىّ أننى أراك فى سياحتك هذه، أراك وقد ذهبت إلى الإسكندرية، ولكن البراء لا يزال الحقد يعشش فى قلبه، وكأن قلبه كان ذئبًا يبحث عن ضحيته، فأرسل إلى ملك مصر «الكامل محمد الأيوبى» رسالة يقول فيها: «سيأتى إليكم رجل دجال، طرده ملك المغرب، فجاء إلينا فى تونس، فطرده ملك تونس، ونخشى أن يؤلب الناس عليك فى مصر لأنه من شيعة الفاطميين».
وصلت الرسالة إلى الملك الكامل، فأمر بالقبض على الشاذلى، وما إن نزل مولانا أبوالحسن من السفينة فى ميناء الإسكندرية حتى قبض عليه الجند، يا الله! ما هذا؟ تركت البراء يا شاذلى فى تونس، فلحقت رسالة كيده بك فى مصر، وحملك الجنود مقيدًا مكبلًا بالأغلال، إلى أن وصلت إلى القاهرة، وعلى مشارفها أنزلوك من الركب، وسرت وراءهم وقدمك مقيدة ويدك مكبلة، ولكن رأسك مرفوعة ووجهك مبتسم، كأنك ستزف إلى عروسك، فما قيمة القيود إذا كانت روحك حرة؟! ثم ذهبوا بك وأنت على هذا الحال إلى السجن لحين أن يبت فى أمرك الملك الكامل، ولبثت فى سجنهم أيامًا حتى استدعاك الملك، وعقد لك جلسة المحاكمة وسط جمهرة من علماء مصر، فتكلمت وأخذت بألبابهم جميعًا، وأنت الذى علمت تلاميذك أن الصادق يصل صدقه إلى القلوب ولو كان الصادق لا يكاد يُبين، والكاذب ستطرد القلوبُ كلامه ولو كان مفوهًا فصيحًا، وأنت الصادق الذى لا يريد أن يحبس علمه عن الناس وإن كان يريد أن يحبس أذاهم عنه، فأدرك الملك أن التهمة مغرضة، فأطلق سراحك يا مولانا، وطار خبرك وعلمك وصيتك بين الناس، واهتزت لك الديار المصرية، وسمح لك الملك أن تذهب للحج، فذهبت.
ثم ويا عجبى منك يا مولانا، لقد عدت إلى تونس، ألم تتركها بسبب قاضيها البراء؟!.
نعم عاد الشيخ إلى تونس ولكنه عاد ليفى بوعده لحاكمها بأنه سيعود ثانية بعد الحج، ولكن كانت له حاجة لم يبدها لأحد، والآن أيها السادة الكرام انتهت حكايتنا مع أبى الحسن الشاذلى، ولكن انتظروا قليلًا، فسأعود معه فى الحلقة القادمة وأنا أروى لكم ما تيسر من سيرة مولانا المرسى أبوالعباس، فحياة الأولياء متصلة ورسالتهم واحدة.