رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«سارق الأقمار» لن يعلن الحرب على إيران


ترامب أذكى من أن يعلن الحرب على إيران وأذكى من أن يحرق الفزاعة التى تجعله يبيع أطنانًا من الأسلحة لعرب الخليج كل عام أو كل عدة أعوام
لا أصدق أن يصدر الرئيس الأمريكى دونالد ترامب أوامره بشن حرب على إيران يومًا ما، أو حتى على المدى القريب والمتوسط... لأنه أذكى من أن يفعلها، وأذكى من أن يحرق الفزاعة التى تجعله يبيع أطنانًا من الأسلحة لعرب الخليج كل عام أو كل عدة أعوام، ويحقق مزيدًا من الانتعاش لاقتصاد بلاده، لذلك فإننى أعتقد أن طبول الحرب هذه المرة لا تختلف عما حدث خلال الأزمة مع كوريا الشمالية منذ شهور، وفى النهاية جلس ترامب مع زعيمها والتقطا الصور التذكارية سويًا، ولا نعرف على أى شىء اتفقا وراء الأبواب المغلقة.. لكن المهم أن طبول الحرب المدوية سكتت تمامًا من يومها.
الحقيقة أن هذه التهديدات «الكاذبة» أو المخادعة عن احتمال شن الحرب على إيران، تذكرنى بأول خديعة سياسية مورست على الأرض الأمريكية، بواسطة كريستوفر كولومبوس عندما نزل على الأرض الأمريكية كمكتشف، يومها لم يجد أمامه سوى السكان الأصليين الذين أسماهم بالهنود الحمر، ولأنه كان يحتاجهم فى إمداد بحارته بالطعام والمؤن، فضل أن يخدعهم بدلًا من أن يطلب ذلك منهم بشكل مباشر، كان كريستوفر كولومبوس يعلم أنهم يقدسون القمر وربما يعبدونه، لذلك هددهم بأنه سيسرق القمر إذا لم يمدوه بالطعام وكل ما يحتاج، مستغلًا معلومة أمده بها علماء فلك اصطحبهم معه، وهى أنه سيحدث خسوف كامل للقمر فى اليوم التالى، وفى البداية رفض الهنود الحمر الاستجابة لطلباته، لكنه بعد اختفاء القمر صدقوه، فذهبوا إليه متوسلين أن يعيد إليهم قمرهم «المسروق»، فوعدهم بأن يعيده إليهم غدًا إذا تسلم الطعام والمؤن، ويقول التاريخ إن الهنود الحمر استعادوا قمرهم، لكنهم خسروا فى المقابل وطنهم وأمانهم إلى الأبد.
ولذلك فإن حكاية تهديدات ترامب بضرب إيران لا تخيف أى عاقل، بل قد تشعره بالأسى والسخرية، فقبل تهديد ترامب كان هناك تهديد من أوباما منذ سنوات قليلة، لكنه تراجع عنه، ثم رفع عنهم العقوبات فى النهاية عقب الاتفاق على برنامجهم النووى، ثم أعاد إليهم أكثر من مائة مليار دولار كانت مجمدة، ليمكنهم من المشاركة فى سيناريو الفوضى الخلاقة فى منطقة الشرق الأوسط.
وليس سرًا أن الإيرانيين أنفسهم مقتنعون بأن ترامب لن يشن الحرب عليهم، إنه فقط يدعوهم للتفاوض حول اتفاق نووى جديد، وهو يحمل فى يده مسدسًا، أو كما قال رئيس لجنة الأمن القومى والسياسة الخارجية فى مجلس الشورى الإيرانى، حشمت الله فلاحت بيشة، لأنهم- أى الأمريكيين- «يدركون أنهم سيخرجون من هذه الحرب خاسرين».
وهناك حقيقة لا يستطيع أحد أن ينكرها، وهى أن وجود إيران القوية، بالسلاح والعتاد وبأطماعها التاريخية فى بلاد العرب، بالنسبة لحكام البيت الأبيض بمثابة الدجاجة التى تبيض ذهبًا، لأنهم قادرون من خلال آلتهم الإعلامية الجبارة أن يضخموا الخطر الإيرانى لإثارة مخاوف دول مجلس التعاون، لدفعها لعقد مزيد من الصفقات لشراء الأسلحة الأمريكية.
وطالما أن السياسة هى فن الممكن، فكل الوسائل متاحة لتحقيق أهدافك، بما فيها ترديد الأكاذيب على طريقة كولومبوس، أو بطريقة أى مخادع آخر، ما دام الأمر سيترجم فى النهاية إلى مزيد من المدفوعات والمشتريات التى ستدعم الاقتصاد الأمريكى الذى تحسن كثيرًا فى عهد ترامب.
وهناك سؤال لمن قد لا يعجبهم هذا التأويل، وهو إذا كانت المشكلة بين واشنطن وطهران، فلماذا لم يلق الإيرانيون المتغطرسون حجرًا صغيرًا على أى هدف أمريكى حتى الآن، وقد سمعنا فقط عن حوادث تخريب محدودة ضد سفن خليجية وهجوم بالطائرات الدرون على محطتى ضخ بترول تابعتين لشركة أرامكو فى السعودية، ونسبت هذه العمليات كلها لإيران، التى تضرب بلا رحمة فى بقاع عربية عدة بدءًا من اليمن والعراق وانتهاء بسوريا ولبنان وليبيا؟!
لا يختلف اثنان على الأطماع الإيرانية فى أراضى وثروات دول الخليج، ولكن هل من الطبيعى أن يضرب الإيرانيون أهدافًا عربية وأوروبية ردًا على التهديدات الأمريكية؟ أم من المنطقى أن يضربوا أهدافًا أمريكية؟ إن هذه الضربات تهدف- من وجهة النظر الأمريكية- إلى ترسيخ مبدأ أن إيران هى العدو الأول للمنطقة، ولا بد من أن نكون مستعدين لها بأحدث ما تنتج المصانع الأمريكية من أسلحة.
وقد يتساءل البعض: إذا كانت التهديدات كاذبة، فكيف ستتم التهدئة بعد كل هذا التصعيد، دون إراقة ماء وجه الرئيس ترامب؟ والحكاية ليست لغزًا فربما يأتى الاتصال الذى أعلن ترامب أنه ينتظره من حكام طهران؟ وربما تعقد قمة- بوساطة عراقية أو عمانية أو قطرية- بينه وبين الرئيس الإيرانى أو المرشد الأعلى على غرار القمة مع كيم يونج أون زعيم كوريا الشمالية، وبعد حصد المزيد من المكاسب لبلاد العم سام، يعلن زوال الخطر، لكن يظل الترويج إلى ضرورة اليقظة للتهديدات الإيرانية لدول المنطقة العربية بشكل عام ولدول مجلس التعاون بشكل خاص.
الحكاية إذن تمثيلية لم يصدقها الإيرانيون أنفسهم، ولكن الغريب أن كثيرًا من العرب يصدقونها، كما صدقوا من قبل حكاية داعش وهى أشهر كذبة أو تمثيلية فى التاريخ، فهو تنظيم صنعته المخابرات الأمريكية والبريطانية بالتعاون مع حلفائهما، ومثل كذبة الربيع العربى وهو صناعة أمريكية بامتياز من الألف إلى الياء.
لقد أيقن الأمريكيون- فيما يبدو- أن أسهل وسيلة للسيطرة على العرب هى أن يدَّعوا أنهم سيسرقون قمرهم، ولن يعيدوه إليهم إلا بعد توقيع صفقات سلاح جديدة لأن الحروب وبيع الأسلحة إليهم- حتى لو كانوا فى غير حاجة حقيقية لها- هى السبيل الأول لإنعاش الاقتصاد الأمريكى.. ويا حبذا لو صاحب شراء الأسلحة الموافقة على نشر المزيد من القوات الأمريكية فى المنطقة، مع التعهد بتسديد كل فواتير الإقامة المريحة لهذه القوات.