رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"إسلاميات كاتب مسيحى ١٣"..

محمد الباز يكتب: إذا كان المسيح هدم الكهنوت.. فلماذا تتمسك به الكنيسة؟

جريدة الدستور

- نظمى رفض فكرة وجود وسطاء بين الله والإنسان أو الوصاية على ضمائر الناس فأزعج الشيوخ والكهنة
- سرجيوس لـ«لوقا»: أتستمع لوعظ الإمام وإرشاده وتنكر على الكنائس اجتماع المؤمنين بها للصلاة؟!

كان يمكن لنظمى لوقا أن ينجو من غضبة رجال الدين المسيحى، لو أنه أطلق كلماته على إطلاقها، دون تحديد أو دخول فى مواجهات تفصيلية، مع ما يعتبرونه أصول وقواعد المسيحية.
كان يمكنه أن يكسب ودهم لو أنه دعا إلى التسامح والتجاور والتعايش، دون أن يناقش أو يعترض أو يفند أو يكشف الغطاء عن النار الهامدة التى لا تنطفئ أبدًا.
لم يكن خوف رجال الدين المسيحى فى الغالب من الأفكار، فهذه يمكنهم الرد عليها بأفكارهم، وسيكون عليهم أن يُقنعوا أتباعهم بها.
خوفهم كان من آثار الأفكار على شرعيتهم ووجودهم ومصالحهم التى لا تنقطع.
كان نظمى مزعجًا فى كتابه «محمد الرسالة والرسول» لرجال الدين المسيحى أكثر من غيرهم.
قال: كل مكان فى أرض الله الطاهرة يصلح مسجدًا ومحرابًا، لا هياكل بعد اليوم، ولا كهانة بعد اليوم، ولا وسطاء بين الله والإنسان بعد اليوم، ولا وصاية على ضمائر الناس، فكلهم أمام الرحمن سواء، والصلة بينهم وبين ربهم صلة مباشرة لا أمت فيها ولا التواء، فمن شاء اتخذ لنفسه سبيلًا إلى ربه «والله سميع عليم»، وليس من حق كائن من كان أن يتدخل بين المرء وربه، أو يدعى لنفسه القوامة على ضميره وعقيدته.
الكلام حتى هذه الدرجة يمكن التعامل معه على أنه عادى وبسيط، ولا يمكن أن يغضب أحدًا، لكن نظمى يتوقف ليثير الزوابع.
يقول: إن السيد المسيح أعلن الحرب على مظهريات اليهودية، وهدم شكليات الطقوس، ونادى بعبادة الضمير النقى، وقال لمن يريد الصلاة أن يدخل مخدعه ويغلقه عليه ليصلى.
ويخرج من ذلك إلى قوله: إنى أعتقد أن المسيح نقض الكهانة، لأنها تناقض عبادة الضمير والصلة الخالصة المباشرة بين الإنسان والله، وأعتقد أن كل ما التصق بالمسيحية بعد ذلك كان من عمل تابعيه، أما هو فلم يرد فى نصوص أقواله ما يبرر قيام الكهنوت.
المواجهة ليست مع المسيح إذن، ولكنها مع تابعيه، الذين يضعهم نظمى وجها لوجه أمام أنفسهم.
يقول للمرة الأخيرة هنا: إن من يطلب من الناس أن ينادوا الله بقولهم «يا أبانا الذى فى السماء» كيف يمكن أن يجيز وسطاء بين الأب والأبناء؟
إن قلب المؤمن هو هيكل الله الحق.
ولا مكان فى هذا الهيكل إلا لضمير صاحبه وإيمانه.
استفز نظمى القمص سرجيوس بشدة.
أسمعه وهو يبدأ المواجهة.
يقول: كان بودنا أن نترك نظمى لله ومنه وإليه، كما نترك من يتظاهرون ويتلاعبون بالصلاة والتدين والغيرة على الأديان والدفاع عنها لأغراض لا تلبث طويلًا؛ حتى يكتشف الناس نواياهم، كما قال السيد المسيح «ليس خفى إلا وسيظهر»، لولا أن نظمى أخذ يذرو التراب الذى يلعب فيه فى جونا المسيحى، فترانا مضطرين أن نتعرض له لا بمدفع؛ لئلا يظن أنه بطل من أبطال التاريخ، بل نكتفى بأن نسلط عليه خرطوشًا من الماء، لا ليبلل ملابسه، ولكن ليمنع ثورة التراب الذى يعبث به ويثيره.
يقول نظمى: «لا هياكل بعد اليوم، ولا كهانة بعد اليوم، ولا وسطاء بين الله والإنسان بعد اليوم».
ويرد سرجيوس عليه:
بعد أى يوم؟
هل بعد يوم محمد؟
أم بعد أن أصدرت أمرك فى مرسومك الملكى؟
فإن قلت: بعد أن جاء محمد، كذب الواقع أقوالك، فهو ذا الهيكل والكنائس قد انتشرت فى كل أقطار المسكونة مئات الأضعاف عما كانت عليه زمن محمد؟
السؤال يتحول إلى تقريع من سرجيوس لنظمى، يقول له:
وها هم الكهنة تراهم منتشرين فى كل أصقاع العالم يباشرون خدمتهم وتبشيرهم فى جميع جنبات العالم.
وها هو جدك والد أمك رأته عيناك كاهنا يكهن، ووسيطا يتوسط بين الخطأة يقربهم إلى الله بوعظه وتعليمه.
بل وما رأيك فى المعابد والجوامع والمصليات الإسلامية المنتشرة فى طول البلاد وعرضها، يجتمع فيها المسلمون كل يوم وبالأخص يوم الجمعة؟
وما رأيك فى أمثال الكهنة والوسطاء عند المسلمين، وفى الجوامع وأنت ترى، وأذنك تسمع، ويدك تلمس وتصافح فى جوامع المسلمين الإمام الذى يأتم به المسلمون ويصلى بالمسلمين، ويتقدم المسلمين فى الصلاة، ويسمعون وعظه وإرشاده، ويحضهم على التوبة والرجوع إلى الله تعالى.
أفتصلى فى الجامع وتأتم بالإمام وتستمع وعظه وإرشاده وتنكر علينا كنائسنا التى معناها الجامعة أو الجامع الذى يجتمع فيه المؤمنون للصلاة؟
اعتقد سرجيوس أنه أجهز بذلك على نظمى لوقا.
لكن ما لا يدركه أنه ليس معنى انتشار الكنائس والمساجد، واستمرار سيطرة رجال الدين ولعبهم دور الوساطة بين الناس وربهم أن الكهانة لم تنته، لقد جاء الإسلام لينهى عصرها، لكن أصحاب المصالح أقوى من الوصية والأمر، وهذا كل شىء، وليس معنى أن يقول نظمى إن الكهانة انتهت أنه يصدر أمرًا ملكيا بإنهائها.
ينتقل سرجيوس إلى نقطة مواجهة أخرى.
يقول لنظمى أنت تعتقد أن المسيح نقض الكهانة، ولم يرد فى نصوص أقواله ما يبرر قيام كهنوت.
فمن أين أتيت بهذا الادعاء والمسيح نفسه دعا رئيس كهنة العهد الجديد، كما ورد فى رسالة بولس إلى العبرانيين: وأولئك كانوا كهنة كثيرين؛ لأن الموت كان يحول دون بقائهم.
وأما هو «أى المسيح» فمن أجل أن يبقى إلى الأبد له كهنوت لا يزول، فلذلك هو الحبر الذى كان يلائمنا حبر قدوس، زكى، بلا عيب، قد انفصل عن الخطأة وصار أعلى من السموات».
وأيضا ما قاله: «أعلنه الله رئيس كهنة على رتبة ملكى صادق».
الكلام ليس للمسيح فقط.
بولس الرسول أيضًا يتحدث.
يقول: كونوا أنتم أيضًا مبنيين كحجارة روحية، بيتًا روحيًا كهنوتًا مقدسًا، لتقديم ذبائح روحية مقبولة عند الله بيسوع المسيح، وأما أنتم فجيل مختار، كهنوت ملوكى، أمة مقدسة وشعب مقتنى.
ويقول صاحب سفر الرؤيا: يسوع المسيح الذى أحبنا وقد غسلنا من خطايانا بدمه، وجعلنا ملوكًا وكهنة لله أبيه، له المجد والسلطان إلى الأبد... آمين».
ويقول أيضًا: سيكونون كهنة لله والمسيح».
يعود سرجيوس للكلام: فإذا كان المسيح هو رئيس كهنة العهد الجديد فكيف ينقض الكهنوت الذى جعل نفسه رئيسًا له، وهل يكون رئيسًا لغير مرءوسين؟
اسمع يا نظمى إن وجود القسوس أو الكهنة أو المرشدين أو الأئمة ليس من اختراع المسيحيين، إنما هو من وضع السيد المسيح كما أنذر كهنة اليهود ورؤساءهم بأنه سوف ينزع الكرمة «أى الكنيسة» من أيديهم ويسلمهم لآخرين، يأتون بثمارها، وهكذا فعل يسوع إذ أقام اثنى عشر رسولا وسبعين آخرين وأرسلهم إلى كل العالم معلمين ومبشرين.
وكما فعل المسيح فعل رسله.
فبولس يقول لتلميذه: من أجل ذلك تركتك فى كريت؛ لكى تكمل الأمور الناقصة وتقيم فى كل مدينة شيوخًا.
وورد فى سفر الأعمال قوله: «وانتخبنا لهم قسوسًا فى كل كنيسة».
وقوله: أما الشيوخ المدبرون حسنًا فليحسنوا أهلا لكرامة مضاعفة ولا سيما الذين يتعبون فى الكلمة.
ويقول يعقوب الرسول: إذا مرض أحد بينكم، فليدع قسوس الكنيسة ليصلوا عليه ويدهنوه بالزيت باسم الرب، وصلاة الإيمان تشفى المريض، والرب يقيمه، وإن كان قد فعل خطيئة تغفر له.
من حق سرجيوس أن يدافع عن الكهنوت وعن رجال الكنيسة الذين ينتمى إليهم بالطبع، لكنه هذه المرة يفقد منطقه.
وأجدنى هنا منحازًا تمامًا لنظمى لوقا، فما كان يقوم به رجال الكهنوت قديمًا تجاوزه الزمن، ولم يعد لهم إلا أن يقوموا على دين أتباعهم ومباشرته، لكن الأزمة التى ربما قادت نظمى إلى الحديث، ولا تزال تقود غيره، هى أن رجال الكهنوت يتدخلون فى كل صغيرة وكبيرة فى حياة الناس.
ومن حق سرجيوس كرجل دين مسيحى أن يصد كل من يخرج على ما قاله المسيح أو ما ردده أتباعه، لكن لا بد له أن ينظر بعين الواقع الذى تجاوز كثيرًا هذه المقولات، فليس معنى نهاية الكهنوت ألا يكون هناك رجال دين، طبيعى ألا ينقرضوا أو تنتهى وظيفتهم من الحياة، لكن نهاية الكهنوت معناها ألا يكونوا مسيطرين على الدين والدنيا، ألا يكونوا وسطاء بين الناس وربهم، ألا يكونوا متحكمين فى حياة الناس ويتدخلون فى كل صغيرة وكبيرة.
المواجهات لا تزال مستمرة بين الفيلسوف والقمص.
يمسك سرجيوس بفقرة كتبها نظمى لوقا فى «محمد الرسالة والرسول» تحت عنوان «ادعاء».
قال فيها: من لم يكن صادقًا فى دعواه فهو دعى، وتجتمع أعراض الادعاء فى انتحال صفة أو قدرة أو حق ليس للمرء حقيقته، وما كذلك كان أبوالقاسم، فلم يدع لنفسه قدرة أو صفة أو حقًا يستعلى بها على أحد أو يترتب لنفسه بها سلطانًا أو تقديمًا، إلى آخر ما كتب مدحًا فى محمد.
يضع سرجيوس هذه الفقرة جانبًا.
يقول: كنا لا نريد أن نعترض للدكتور نظمى فى مجال مدحه محمدًا والتغزل فيه، لأننا لسنا ممن يغضب أو يحزن، أو يحسد الغير على مديح يناله، لأننا كمسيحيين نفرح مع الفرحين ونحزن مع الحزانى، ولكن الدكتور نظمى اعتاد فى كتابه هذا أن يتخذ من مديح محمد فرصة للغمز واللمز فى السيد المسيح والمسيحيين، فيغمز فى المسيح كأنه هو الذى انتحل لنفسه صفة وقدرة وحقًا استعلى به على سائر البشر، ويغمز فى المسيحيين لأنهم آمنوا بالمسيح كإله وابن الله وعبدوه، ولا يزالون يعبدونه إلى هذا اليوم.
وينصح سرجيوس نظمى، يقول له: فليسمع الدكتور نظمى ويتأدب أمام جلال المسيح الذى لم يدع شيئًا ليس له، ولا استعلى على أحد؛ لأنه هو الذى قال: تعالوا إلىّ يا جميع المتعبين والثقيلى الأحمال، وأنا أريحكم، احملوا نيرى عليكم وتعلموا منى فإنى وديع ومتواضع القلب.
وهو الذى مع كونه ابن الله، فقد غسل أرجل تلاميذه ليلة آلامه وقال لهم: مثالًا أعطيكم، وهو - تمجد اسمه - لم يدع لنفسه شيئًا ليس له، وإنما دعته كتب الأديان الثلاثة إلها وربًا وروح الله وكلمته.
ولما قال عن نفسه إنه ابن الله فقد برهن قوله هذا بما صنع من آيات وعجائب ومعجزات باهرة.
يأخذ سرجيوس على نظمى فيما يبدو أنه ينكر المعجزات الحسية.
يمسك بقوله «لا دعوى ولا ادعاء ولا مظاهرة من الخوارق والبوارق وإنما الهداية إلى ما تطمئن به النفس ويستريح إليه العقل».
ثم يوجه مدفعيته بعد ذلك إليه.
يقول: ظاهر بوضوح من هذا الكلام الغمز فى المسيح الذى جاء بالعجائب الظاهرة للعيان والملموسة بالأيادى، جاء بالخوارق التى لم يسبق لها فى العالم نظير، فاستهوى الناس إلى ديانته التى «لا تطمئن إليها النفوس ولا تستريح إليها العقول».
لا أخفيكم إحساسى بأن القمص سرجيوس سرجيوس يعانى هنا تحديدًا من حساسية شديدة جدًا تجاه كل ما يقوله نظمى.
فالفيلسوف لا يتحدث عن المعجزات التى جاءت على يد المسيح فقط، ولكن عن المعجزات التى جاءت على أيدى الأنبياء جميعًا.
فما الذى يجعل القمص يأخذ الكلام على أنه غمز ولمز فى المسيح؟
يقول هو نصًا: هذا ما يغمز له نظمى فى سيده يسوع، وهو فى غمزه هذا يطعن فى الله تعالى، الذى ظهر فى المسيح يسوع وصنع الآيات والعجائب، كما يشهد القرآن فى سورة آل عمران «وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِى إِسْرَائِيلَ أَنِّى قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّى أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَه»ّ.
يمسك سرجيوس برقبة نظمى، يواصل كلامه ورسائله إليه: فهل يعيب نظمى على المسيح مظاهرة الآيات والمعجزات له، أم يعيب ذلك على الله تعالى الذى يشهد القرآن بأنها كانت بإذنه.
أغلب الظن أن الحساسية التى يعانى منها سرجيوس تجاه نظمى، ليست بسبب ما قاله فقط، ولكن لأنه قاله وهو مسيحى، وطالما أنه مسيحى فهو مسئول عنه، باعتباره واحدًا من شعبه، ولذلك تلاحظ أن الطريقة التى يتحدث بها سرجيوس طول الوقت، ليست مجرد حوار أو جدل حول أفكار، ولكنها أقرب إلى تأديب لطفل أخطأ، وما كان له أن يقع فى الخطأ... لا لشىء إلا لأنه مسيحى فقط.
وهو ما يظهر أيضًا من تعليق سرجيوس على ما قاله نظمى تحت عنوان «الجهاد الأكبر جهاد النفس».
قال نظمى: يطريه أصحابه بالحق الذى يعلمون عنه فيقول لهم: لا تطرونى كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد الله فقولوا عبد الله ورسوله».
يأخذ سرجيوس على نظمى أنه انتقل من الغمز السرى إلى الهجوم العلنى والمقابلة المكشوفة بين محمد والمسيح، فهو لا يجد ما يمتدح به محمدًا إلا إذا افترى على سيده يسوع المسيح، فظن أن مثل هذه المقارنة تحقر المسيح فجاء العكس.
فمن وجهة نظر سرجيوس أن محمدًا عندما رفض إطراء أتباعه، قرر حقيقة نفسه بأنه مجرد عبد ورسول، أما المسيح له المجد فلم يطره أصحابه وحسب.
بل أطراه القرآن حين دعاه «روح الله وكلمته».
وحين دعاه بالخالق الذى يخلق من الطين كهيئة الطير وينفخ فيه، كما نفخ قديمًا فى آدم بعدما خلقه من طين فصار نفسًا حية.
أطراه حديث البخارى عندما قال محمد عنه إنه الوحيد الذى لم يستطع الشيطان أن يمسه دون بنى آدم كلهم.
أطراه الحديث حين قال إنه سينزل عندما تأتى الساعة ديانًا للأحياء والأموات.
كان يمكن لسرجيوس أن يكون أهدأ، لو أنه تعامل مع الموقف بالمنطق.
شاهده وهو يصل بنا إلى مساحة جديدة.
يمسك بما قاله نظمى من جديد: ويمرض المريض من أدنى الناس فيعوده، وقد يدعوه عبد أو مسكين إلى طعام فلا يمتنع، ويداعب الأطفال من أبناء تابعيه وأصحابه ويجلسهم فى حجره.
ويرد عليه: نحن نقول لنظمى وهل كان المسيح على خلاف ذلك؟
إنه كان أكثر من زائر للمرضى، فلم يكتف بزيارة المرضى ومواساتهم بكلمات تنتهى معها المواساة بعد خروج الزائر، فإنه - تمجد اسمه - كان يجول ليوزع المراحم والشفاء على المرضى والخلاص من الشياطين، والإقامة من الموت، وتفتيح أعين العميان من الصباح إلى ما بعد الغروب وكل يوم، حتى قيل إن عجائبه ومعجزاته لو كتبت واحدة فواحدة لا تسعها الكتب.
ويسأل سرجيوس:
وهل كان المسيح يترفع عن العبد والمسكين فلا يأكل معهما؟ أما دعاه الفريسى فأكل معه ودعاه العشار فأكل مع العشارين والخطأة، حتى قال عنه أعداؤه من رؤساء اليهود: إنه محب للعشارين والخطأة؟
وهل تستطيع أن تذكر للمسيح حادثة واحدة استهان فيها بفقير أو مسكين أو مريض أو سائل يسأله؟
وبعد الأسئلة يقول له: اسمع يا نظمى كما أن المسيح كان الوحيد الأوحد والمفرد العلم وسط البشرية جمعاء- كما شهد حديث البخارى- الذى لم يمسه الشيطان، هكذا كان هو الوحيد الأوحد الذى قال وفعل: من يقبل إلى فلا أخرجه خارجًا.
ما قاله نظمى كان مستفزًا جدًا لسرجيوس، الذى خرج عن وقار العالم الذى يفند أفكار غيره، مدعيًا أنه لا يغضب أو يحزن من إنصاف نبى الإسلام، فيحاول أن يسىء إلى النبى محمد معتقدًا أن هذا يتم بطريقة غير مباشرة، رغم أن الإساءة كانت واضحة جدًا.
يقول: أما محمد فمع كل الحسنات والصفات التى ذكرتها له فقد جاءه مرة الأعمى فعبس فى وجهه، واسمع ما قيل بعد هذا، جاء فى سورة عبس: «عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ. أَن جَاءَهُ الْأَعْمَىٰ. وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ. أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَىٰ. أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَىٰ. فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰ. وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّىٰ. وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَىٰ. وَهُوَ يَخْشَىٰ. فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّىٰ».
لا يكتفى سرجيوس بالإشارة إلى الموقف، بل يستعين بما قاله الإمام البيضاوى فى تفسير سورة عبس، وينقل عنه أن ابن مكتوم أتى رسول الله وعنده صناديد قريش يدعونه إلى الإسلام، فقال يا رسول الله: علمنى مما علمك الله، وكرر ذلك ولم يعلم تشاغله بالقوم، فكره رسول الله قطعه لكلامه، وعبس وأعرض عنه فنزلت، فكان رسول الله يكرمه ويقول إذا رآه: مرحبًا بمن عاتبنى فيه ربى.
المشكلة الكبرى التى عانى منها سرجيوس، أنه جعل من المسيح متهمًا عند نظمى وبدأ فى الدفاع عنه.
أسمعه للمرة الأخيرة هنا وهو يقول: وهل المسيح أقل عطفًا ومحبة وحنانًا على الأطفال، أما قرأت يا نظمى ما قاله له المجد عن الأطفال: إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد فلن تدخلوا ملكوت السموات.
ولما انتهز تلاميذه الأطفال حين تقدموا إليه، قال يسوع للتلاميذ: دعوا الأولاد يأتون إلىَّ ولا تمنعوهم لأن لمثل هؤلاء ملكوت السموات، ووضع يديه عليهم.
أما تقبل يسوع التسبيح من الأطفال عندما دخل إلىّ أورشليم فى احتفال عظيم، فلما غضب الكهنة وطلبوا إليه أن ينتهرهم، أجابهم قائلًا: أما قرأتم قط أنه من أفواه الأطفال والرضع هيأت تسبيحًا.
لا يمكن أن أقلل من قيمة هذا الحوار، لكن كان يمكن له أن يكتمل تمامًا، لو تخلى سرجيوس عن عصبيته وحساسيته واعتقاده بأن نظمى لوقا طابور خامس، يريد أن يهدم المسيحية لصالح الإسلام... أضاعت هذه الحالة كثيرًا من المنطقية فى الطرح والعقلانية فى النقاش.
كان هذا رد فعل الكنيسة.
يمكن أن يحتج علىَّ أحدهم ويقول إنه لم يكن ردها الرسمى، لأن ردها الرسمى كان قطع نظمى وحرمانه، سأقول له: لقد كان هذا الرد من سرجيوس متوافقًا تمامًا مع موقف الكنيسة الرسمى، وبدعم منها وتأييد كامل، فلم يكن كافيًا بالنسبة لها أن تحرم نظمى، بل كان لا بد أن تفند أفكاره، حتى لا يتبعه أحد من أبناء الكنيسة، ولم يكن أمامها خير من سرجيوس، الذى كان فوق ثقافته وفصاحته وجرأته، اسما معروفًا فى الحياة العامة المصرية، وهو ما أضاف للرد ثقلًا هائلًا وقتها.