رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"ولى ومريد"..

أبوالحسن الشاذلى.. الزاهد الغنى


كنا نتحدث معًا قبل ذلك عن القطب الزاهد أبى الحسن الشاذلى، وروينا معًا طرفًا من سيرته عندما كنا فى رحاب شيخه عبدالسلام بن مشيش، وعرفنا أن الشاذلى كان هو التلميذ الذى تلقى الطريقة من أستاذه ابن مشيش، ثم انصرفنا عن الشاذلى على وعدٍ أن نعود إليه، وها نحن نعود، ولكننا لن نبدأ من مولده الجسدى حين أهَلَّّ على الدنيا، فمن اللائق أن نبدأ بمولده الحقيقى حين تعرف على الطريق إلى الله وقتما التقى القطب ابن مشيش، وقد لبث معه ما لبث من الزمان، وأخذ منه ما أخذ من الفيوضات، وبعد أن نهل منه ما نهل، وفتح الله بصيرته بما فتح، قال لشيخه وهو يهم بالانصراف والترحال: أوصنى يا أبى، فالشاذلى اعتبر نفسه الابن الروحى لعبدالسلام بن مشيش فنظر له الشيخ صاحب المهابة التى اجتمعت مع طيب وجهٍ، نظرة ودٍ ثم قال: «يا علىّ، الله الله، والناس الناس».
أظننا الآن أيها الناس ننشغل بالناس وننسى رب الناس، تتعلق قلوبنا بما فى يد الناس، وننسى مدد الله لنا، نبكى على ما فاتنا من الناس ويدُ الله معنا لا تغادرنا أبدًا ولكننا لا ننتبه لها، بل إننى وأنا أكتب لكم تتساقط الكلمات منى كلمة كلمة، فأحدث نفسى قائلًا: تظن أنك تروح وتغدو فى هذه الدنيا، ثم إذا بك وأنت فى الستين من عمرك تدرك أن الدنيا هى التى كانت تروح وتغدو بك، وما أنت إلا كبندول الساعة، لست أنت الزمن ولكنك علامة من علامات الزمن، تعلو وتهبط فإذا توقفت متّ، ولا أعلم أين أنا الآن وأين موضعى من الدنيا والناس، ولكننى لا أبحث إلا عن موضعى عند الله، ورحم الله الحلّاج الذى قال: دينى لنفسى ودين الناس للناس.
وقد كان هذا هو أول معالم الطريقة الشاذلية «الله، والناس»، ولعلكم تتذكرون ذلك الدعاء الذى سمعه الشاذلى من شيخه ابن مشيش، والذى كان يطلب فيه من الله أن يُبعد الناس عنه حتى لا يكون له ملجأ يلجأ إليه إلا الله، ولكنه لكى يبتعد عن الناس يجب أن يتحلى بأخلاق حددها له الشيخ وهو يقول: «نــزِّه لسانك عن ذكرهم، وقلبك عن التمايل من قِبَلِهم»، وهنا تأتى اللمحة الأولى: أن ينزه نفسه عن ذكر الناس، وكأن ذكرهم دنس والعارف يتنزه عن الدنس، ثم عليه أن ينزّه قلبه عن الميل إليهم، ثم قال له: «وقل اللهم ارحمنى من ذكرهم، ومن العوارض من قِبَلهم، ونجّنى من شرهم، وأغننى بخيرك عن خيرهم، وتولّنى بالخصوصية من بينهم، إنك على كل شىءٍ قدير».
ولكن كيف يكون الحال مع الله سبحانه وتعالى؟، قال الشيخ: «عليك بحفظ الجوارح، وأداء الفرائض» ثم نظر فى وجهه نظرة المحب لحبيبه الذى اجتمع معه فى محبة الله، ثم قال كلمات وكأنها الحب نفسه وقد تحول إلى كائن لفظى يخرج من الأفئدة قبل أن يخرج من الأفواه: «لا تنقل قدميك إلا فى محبة الله، ولا تجلس إلا حيث تأمن من معصية الله، ولا تصحب إلا من تستعين به على طاعة الله، ولا تصطفِ لنفسك إلا من تزداد به يقينًا».
هذا هو الطريق باختصار، إذا أردت أن تسير فى الطريق لتصل إلى الحقيقة فعليك أن تترك طريق الناس، وإذا أردت أن تسير فى طريق الله فعلى قلبك أن يتحرك بمحبته، فهذا طريق لا يقبل إلا المحبين، هذا طريق لا يعرف إلا الرحمة والمودة والسلام، هذا طريق ينظر فيه السالك إلى الناس نظرة الدعوة لا الدعوى، فلو نظر إليهم نظرة الدعوة رحمهم، ولو نظر إليهم نظرة الدعوى رجمهم، والمُحب لا يَرجم ولا يَكره، ألا تعلمون أن الله سبحانه من صفاته «الودود» وليس من صفاته «الكاره» الله لم يكره أحدًا ولكنه كره أفعال الناس، فهو خالقهم ورازقهم، لذلك قال الله عن المنافقين «وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ»، ولا يجوز لنا أن نقيس مشاعر الله التى وصف بها نفسه على مشاعرنا، فنحن المخلوقات النسبية التى لا تستطيع أن تحيط بالخالق المطلق، ولا أن تعرف كيف هو حُبه أو غضبه، ولكن أكثر علماء التسلف تحدثوا عن الله وكأنهم يتحدثون عن واحدٍ من الناس، ولذلك أصبحوا أصحاب دعوى، فرجموا الناس وقتلوهم وسفكوا دماءهم باسم الله، والله برىءٌ مما يفعلون.
هذه هى الفكرة التى خرجت بها من دراستى للطريقة الشاذلية ومنهجها، ولكننى حتمًا ينبغى أن أعود لحياة الشاذلى لأتعرف على اسمه ورسمه، أما اسمه فهو «على بن عبدالله بن عبدالجبار بن يوسف»، ويُكنّى بأبى الحسن نسبة إلى ابنه «أبوالحسن على»، ويبدو أن اسم «على» كان هو الغالب على أولئك الأشراف الذين ينتسبون للنبى صلى الله عليه وسلم عن طريق سيدنا على والسيدة فاطمة رضى الله عنهما، لذلك تجد معظم الأسماء تكون بين على والحسن والحسين، ولكن من أين جاء لقب الشاذلى، وهو لم يولد إلا وسط قبيلة غمارة التى هى فى شمال المغرب، فكان من الحرىّ أن يكون لقبه «الغمارى» ولكنه اكتسب لقب «الشاذلى» من بلدة اسمها شاذلة بتونس، كان قد رحل إليها بعد أن ترك شيخه عبدالسلام بن مشيش.
والآن يا سادة يا كرام يجب أن نتعرف على هيئة هذا الشيخ الذى طبقت شهرته الآفاق، كان أسمر الوجه، نحيف القوام، جهير الصوت، ولم يكن من أصحاب اللحى الكثيفة، فقد كانت لحيته خفيفة، تنبت فى مواضع وتخف فى مواضع، كما أنه كان طويل القامة، طويل أصابع اليدين، وقد كانت هذه الصفات الجسدية هى الصفات التى يتميز بها أبناء قبيلته الغمارية، وقد قال تلاميذه عنه إنه كان فصيح اللسان، عذب الكلام، يلبس الفاخر من الثياب، ويتخذ الخيل الجياد، وكان لا يعجبه الزى الذى اصطلح عليه الدراويش، ولا يرتدى الثياب المرقعة البالية بل كان يرتدى أفخر الثياب، وذات يوم وهو يلقى درسًا بين مريديه دخل عليه أحد الدراويش عليه ملابس بالية وممزقة تعلوها الأوساخ، ومن قِدمها لا تستطيع أن تتعرف على لونها، فلما فرغ الشاذلى من درسه، دنا منه ذلك الدرويش وأمسك ملابسه وقال: «يا سيدى ما عُبد الله بهذا اللباس الذى عليك»، فأمسك الشاذلى بملابس الدرويش فوجد فيها خشونة فقال له: «ولا عُبد الله بهذا اللباس الذى عليك، ثيابى تقول للناس أنا غنىٌ عنكم فلا تعطونى، وثوبك يقول أنا فقير إليكم فأعطونى»، هذه كانت صفاته وتلك كانت هيئته، تعلمت منه أننا يجب أن نجعل الدنيا فى أيدينا لا فى قلوبنا، وقد كانت الدنيا تروح وتغدو عند الشاذلى، فكان يمسكها بيده إذا أقبلت عليه، وحينما تروح وتبتعد كأن شيئًا لم يكن، كان حاله حينما كانت لديه الخيول والثيران، مثل حاله وهو فى السجن، كان هذا كذاك.
وأحسب أننى كتبت الآن: «حاله وهو فى السجن»! فهل دخل الشاذلى السجن؟ ولماذا سُجِن؟ بدأ الأمر عندما ذهب إلى شاذلة فى تونس، ثم توالت عليه الأحداث التى سنرويها فى الحلقة القادمة.