رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إسلاميات كاتب مسيحى «12»

محمد الباز يكتب: حسم مسألة «ما لقيصر لقيصر» من المسيحية إلى الإسلام

جريدة الدستور

- نظمى لوقا سعى إلى تحرير الإنسان من الكهنوت ومن سلطة رجال الدين الذين يقفون حاجزًا بين الإنسان وربه
- المفكر الراحل رأى أن العالم مقسوم إلى شطرين الأول للدين والثانى للدنيا ويجب الفصل بينهما بـ«سد منيع»
- القمص اعتبر أن نظمى متأسلم ومتأرجح بين الإسلام والمسيحية ويتخذ من حكمة المسيح وأقواله سمومًا ينفثها
- سرجيوس قال إن آية «أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله» خاصة بواقعة معينة ولا ينبغى تعميمها


من بين ما يحكم به العقل ألا نترك أنفسنا لوجهة نظر واحدة، حتى لو كانت مقنعة لنا بشكل كبير.
فحتمًا هناك على الشاطئ الآخر ما يستحق أن نستمع إليه.
على الأقل حتى نعزز وجهة نظرنا.
ولا مانع إن وجدنا ما يقنع، أن نتراجع عما اعتقدنا أو استقرت عليه عقولنا وقلوبنا، فالموتى فقط هم الذين لا يغيرون آراءهم.
هذا تحديدًا ولا شىء غيره ما جعلنى أتوقف كثيرًا عند ما كتبه نظمى لوقا فى كتابه «محمد الرسالة والرسول»، دون أن تمنعنى قناعتى التامة بمنهجه ومذهبه الفلسفى أن أثبت ما قاله القمص سرجيوس سرجيوس ناقدًا ومعترضًا على ما كتبه نظمى وساخرًا منه.
وفى هذا احترام لعقلى وعقلك أيضًا.
من بين ما يمكن اعتباره محاورة مهمة جدًا ما كتبه نظمى لوقا تحت عنوان «لا قيصر».
يبدأ نظمى معركته الجديدة بما قاله السيد المسيح: «أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله».
يدخل الفيلسوف إلى ما يريده مباشرة، فيصف هذا العالم بأنه مقسوم إلى شطرين.
مقسوم: شطر لله، وشطر لقيصر.
مقسوم: شطر للقلب والروح، وشطر للحس والبدن.
مقسوم: شطر للدين، وشطر للدنيا.
العالم مقسوم وعلى المرء أن يختار شطرًا منه ويتخلى عن شطر.
ويجعل بينه وبين الشطر المتروك سدًا.
سدًا من عداء أو سدًا من إذعان سلبى هو كالعداء سواء بسواء.
يعرف نظمى أن هذه دعوة السيد الناصرى.
يقول: عدل بها عن سنن اليهود فى تعلقهم بالملك، وحرصم على الدنيا، فجعل الدين للقلب، وجعل العزة للروح، ونادى بتحقير الدنيا ونبذها، بما فيها من مال وحس وبدن وملك وسلطان.
أقيصر بيده مقاليد الدنيا؟
قل إذن ما الدنيا، فإنك بعدها لخليق أن تقول وما قيصر؟ فليذهب قيصر بالدنيا على رحبها، فأعظم ما فيها عندئذ هين، وأجل ما يكون من أمرها حقير، ما سلمت لك نفسك التى بين جنبيك من شوائب الدنيا، وزغل السلطان وفتنته، فإنك فى حزب الله أجل من قيصر شأنًا، لأنك أحظى منه سكينة نفسًا وأمنًا، وأهدى منه سبيلًا.
يقدر على ذلك، كما يرى نظمى، هؤلاء الذين نفضوا أيديهم، بل ونفضوا ترابها من نعالهم، وسلكوا إلى ربهم مرتقى عسيرًا إلا على من يسرهم المولى له، وهم قلة نادرة بين العالمين.
أما سواد البشر وهم ملايين ومئات الملايين، فلا هم قادرون على الانسلاخ من الدنيا التى تضج فى دمائهم قبل أن تضج فيما حولهم من المغريات والمقيمات المقعدات، ولا هم قادرون إزاء هذه الدعوة على أن يقبلوا على الدنيا بقلب سليم وعزم مقيم، وإنما هو الفصام، وإنما هو التعلق بين السماء والأرض، عاجزين عن اليقين، حيارى ما لهم من قرار.
يختار نظمى لوقا مكانًا بعينه، ويشير إليه، فأعز مكان فى هذه الدنيا دير من الأديرة أو صومعة مفردة فى مفازة بيداء، لا يطرقها طارق، ولا ينعق فيها ناعق، يخلو فيها العابد لوجه الله، فما الدنيا للإنسان بدار، وإنما هو قد نعاها وجفاها، وما لبثه فيه إلا ريثما يقبضه ملك الموت، فيتم عليه ما اعتزمه منذ أمد بعيد، وأوغل فيه من ترك الحياة.
وما كل امرئ بقادر على أن يكون راهبًا فى دير أو ناسكًا فى صومعة، ولو قدر كل إنسان على ذلك لاضمحلت الحياة وباد منها بنو آدم، وورثها الوحش وحشاش الأرض الوارثون، وما كان تقاعس الناس عن هذه الخطة ضعفًا منهم أو عجزًا، بل مطاوعة منهم لفطرة الله القاهرة التى فطرهم عليها، حين ركب فى نفوسهم حب الحياة والإقبال عليها غير مختارين، فلو كان مراده سبحانه من الخلق أن يستدبروا الدنيا ويخلعوا الحياة من وجدانهم ومقاصدهم، ففيمَ إذن كان خلقه للدنيا وخلقهم فيها، وخلق محبتها فى قلوبهم فطرة لا حاجة معها إلى تعلم أو اكتساب.
يقتحم نظمى المنطقة القلقة والمقلقة.
فقد تغلبت فطرة الخلق، وثابر الناس على الانصراف إلى الحياة، لا الانصراف عنها، فكان لا بد من موقف من قيصر، وفى يده مقاليد الدنيا، كان لا بد من انشغال الخاطر بأمر السلطة وأسلوب الحكم، وليس فى الانصياع السلبى والتسليم للحكومة أى معنى من معانى الاهتمام، فالاهتمام هم ومشاركة وعمل.
وهنا يصبح السؤال واجبًا: فبأى سند من المبدأ أو العقل أو حتى العقيدة، تتصدى لذلك الاهتمام بالحكم وأسلوبه، وقد قسمت الأمر بين ما هو لله وما هو لقيصر، فجعلت من قيصر فى الدنيا ندًا لله فى عالم الغيب والسريرة؟
لا بد هنا من وقفة حاسمة وضربة قاصمة، حتى يصير الأمر كله لله، بين دنيا الإنسان وأخراه.
ينحاز نظمى لوقا للقرآن فمحا تلك القسمة محوًا، ووحد مملكة الحق سفلًا وعلوًا، فجاء فى سورة الأعراف «يا أيها الناس إنى رسول الله إليكم جميعًا، الذى له ملك السموات والأرض».
فمن يكون هنا قيصر؟ بل أين هو؟
لا قيصر بعد الله، بل لله الأمر جميعًا، ولله المشرق والمغرب، رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون.
الله أكبر ولا قيصر بعد اليوم، وليس قيصر الروم وحده هو الذى نعنيه حين نقول قيصر، بل كل حاكم يسوم الرعية الخسف، ويستمد من غير الحق والعدل والأصول الإلهية سلطانه على الناس.
لا قيصر بعد اليوم بين قوم يؤمنون بأنه لا إله إلا الله، له الخلق والأمر، وأمرهم شورى بينهم، بل إن الرسول وهو الحاكم الأول زمانًا ومقامًا وقدوة، كان عليه أن يشاور المؤمنين فى الأمر، وكذلك كان يفعل، فقد ورد فى آل عمران «وشاورهم فى الأمر».
ويسأل نظمى: أتعطى ما لله لله وما لقيصر لقيصر، ومن ذا يملك من الأمر شيئًا غير الله، فهذا هو رسوله والحاكم الآمر باسمه يجابه فى سورة آل عمران بأنه «ليس لك من الأمر شىء»، ويقول فى سورة «ق»: «وما أنت عليهم بجبار».
لا جبار على المؤمنين، و«إنما المؤمنون إخوة».
والحاكم يقوم باسم الأمة... التى هى أمة وليست ملكًا موروثا، المؤمنون فيها إخوة، وليس عليهم بجبار، وحكم الله فيهم شورى بينهم، وليس حكمه فيهم لأحد يتحدث باسمه أو يحتكر السلطان على الناس أو الجماعة منهم كأنهم أرباب لهم منزلة وسط بين الله والناس.
يصل نظمى لوقا إلى ما يمكن اعتباره مزعجًا ومقلقًا وجالبًا له كل الكراهية والعنف والرفض والاتهام والسخرية ومحاولة الإفناء التى لا تزال تتواصل حتى الآن.
يقول: لا كهان ولا أحبار، وإنما الأمر كله متروك لكتاب الله وما أخذ به عباده من سنة ارتضاها لهم، وهكذا تتسق السرائر والمظاهر، وتكون حكومة الناس صورة من عقيدتهم، يحكم الحاكم بما أمر الله، وليس له أن يكون على الناس جبارًا، وليس له أن ينفرد بالأمر دونهم، بل إنه لا يكون حاكمًا إلا بإجماع منهم، وعندئذ تجب عليهم الطاعة له ما عدل واتقى، وعليهم أن يعينوه على الأمر بالمشورة والرأى والطاعة.
القرآن يعين نظمى لوقا على ما يريده ويبتغى الوصول إليه، يقول الله «وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان».
وفى حدود البر والتقوى والعدل يقول الرسول-ص-: «اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشى كأن رأسه زبيبة».
وعليه فللحاكم على الناس الطاعة، ولهم عليه أن يعدل، ويتقى الله، ويشاورهم فى الأمر، وأن يخفض لهم جناحه، فما هو إلا مؤتم برسوله، وقد قيل له فى سورة «الشعراء» «واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين».
أما إن ضل وغوى، وأعجبته نفسه، وفتنه سلطانه، فقد غدر بالبيعة التى له فى أعناق الناس إذا جار عليهم، وما كان لهم أن يعينوه على الأمر، حتى لا يكون تعاونًا على الإثم والعدوان، فما هلك الأمم من قبلهم إلا لأنهم «كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه».
ولذلك كان أفضل الجهاد «كلمة حق عند سلطان جائر»، كما قال صاحب الرسالة فى حديثه الشريف.
يقف نظمى على الحكمة الكبرى، تلك الحكمة التى تأتينا على هامش معضلة الحكم الكبرى.
فالأمر لله جميعًا، والمؤمنون أمة الله، فى أعناقهم أمانة دينه وحقه وعدله، فمن فرط فى شىء من ذلك كان مجترحًا لأمر عظيم.
أليس الرسول هو القائل فى كلماته الجوامع، وحكمه الموانع: «كما تكونوا يولى عليكم».
ما الذى يمكن أن نفهمه من ذلك؟
نفهم كما فهم نظمى تمامًا، فلن يقوم جائر فى قوم طبعوا على العدل والحق وكرامة العدل والغيرة على الحق، ولن يقوم عادل فى قوم بهتان وذل، فإنه خليق أن يتعلم من تطامنهم الشموخ، ومن انقيادهم الصيد والاستبداد.
يركن نظمى قليلًا إلى ما يحدث على أرض علاقات الناس بحكوماتهم، ولا يخفى وهو يتحدث عن غرامه الشديد بالنبى محمد ومحبته له، ستلحظ هذا فى تعبيراته.
يقول: أجل يا رسول الخير والصدق والحق، فالناس بخير وحكومتهم بخير، ما بقى للحق فى قلوبهم مكان، وللغيرة على العدل فى قلوبهم الكلمة والسلطان، وما يئس المنكر أن يجد فى قلوبهم الإغضاء والتواطؤ، وما أبوا أن يجعلوا ممن يحكمون بالجور شركاء لله بالاستكانة والإذعان.
ويقول مرة ثانية: صدقت يا رسول الصدق: وصدق بمدد منك الإمام محمد عبده حين قال: إن المعول كله على يقظة الأمة، وإنه إذا فقدت الأمة شجاعة إيمانها، فلا خير لها فى شىء من مظاهر المنعة والحرية والاستقلال.
ويقابل نظمى بين الأمة والحكومة.
فالأمة بخير ما أوتيت شجاعة الإيمان، والحكومة بخير ما وجدت ذلك الإيمان لها على رصد ساهر لا ينم.
ولا يتردد نظمى عن مخاطبة الناس فيقول للجميع: أيها الناس أمركم إليكم، وحكومتكم منكم وبكم وإليكم، وكلكم الله إلى إيمانكم، وأراد بكم الخير فلا تريدوا بأنفسكم الضير.
ويؤكد غايته من كل ما يقوله: لا قيصر بعد اليوم، بل لله الأمر جميعًا، والله قد فوضكم فى أنفسكم، ولم يجعل عليكم وكيلًا ولا كاهنًا ولا جبارًا، وإنما هو إيمانكم وعقلكم، وكأين من مفرط ترك راية العدل تسقط من قلبه اتباعًا لسلطان جائر أو طمعًا فى قربى لديه، فقد أشرك بالله وباع دينه واتبع قيصر، وكفر بأن الأمر كله لله، الذى له ملك السموات والأرض... وإلا من له أذنان للسمع فليسمع.
ولأن لكل أمر خلاصة.
فخلاصة ما يذهب إليه نظمى لوقا هنا قوله: بمثل هذا يكون الملكوت فى الأرض، وبمثل هذا تكون عمارة الأرض، وبمثل هذا لا يكون المؤمنون بالله أذلاء بإيمانهم أمام الطاغوت مستضعفين فى الأرض، ولا يكون من تجبر وخرج على الله أقوى فيها ممن قال ربى الله.
أما خلاصة الخلاصة فيصيغها نظمى بأن بالإسلام تمت العقيدة به دنيا ودينًا.
لأن الدنيا فيها مسبار الدين، والإنسان فيها مسدد اليقين، لا يعبد إلا ربًا واحدًا، حكامه فى الأرض خدامه وصالحوه، وهو على نفسه ودينه وكيل مسئول وليس عليهم بجبار.
سعى نظمى لوقا إلى تحرير الإنسان من الكهنوت، ومن سلطة وسلطان رجال الدين الذين يقفون حاجزًا بين الإنسان وربه، رغم أن الرب نفسه لم يقر ذلك، وقد يكون هذا ما أزعج الكنيسة، لأنه وبجرة قلم ينهى مؤسسة كبيرة وضخمة تقوم على قدسية وقداسة رجال الدين.. وتقوم وهذا هو الأهم من كل شىء على مصالحهم التى لا يريدون لها أن تنتهى أو تتبدد.
هنا يظهر لنا القمص سرجيوس سرجيوس، الذى اختار نفس العنوان «لا قيصر» ليفند ما ذهب إليه نظمى لوقا.
يقول سرجيوس: كتب كتاب العالم على اختلاف أديانهم عن السيد المسيح، وطالما استعملوا هذه الآية «أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله» فى كتاباتهم وتعبيراتهم، وقد فسر المفسرون للأناجيل هذه الآية، فلم نسمع ولا قرأ أحدنا لأى من الكتاب والمفسرين شيئًا مما افتراه نظمى لوقا، حفيد القسوس، على هذه الآية الكريمة.
وها هى الكتب المسيحية والإسلامية والكفرية فليفتشها ليرى، هل حمّل أحد هذه الآية ما حملها هو؟ هل قال أحد إن قول السيد المسيح «أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله» معناه شطر العالم شطرين، شطر لقيصر وشطر لله، شطر للقلب وشطر للحس والبدن، شطر للدين وشطر للدنيا، وجعل سدًا من عداء بين شطر وشطر؟
يقدم القمص سرجيوس سرجيوس بين يدى اعتراضه الأول، ما قال إنه تفاسير المسيحيين على اختلاف مذاهبهم لهذه الآية.
ويقول: «أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله»... لا يشتم منها رائحة لشبه ما افتراه نظمى لوقا، بل أجمع كل المفسرين على تفسيرها حسب سياق الكلام والمناسبة التى قالها فيها السيد المسيح، والسياق من أهم قواعد التفسير.
ينحاز القمص سرجيوس فى كلامه هنا إلى ما نميل إليه، وهو أن تفسير الآية لا يأتى بعموم اللفظ ولكن بخصوصية السبب، وهو ما أطلق عليه السياق الذى قال فيه المسيح كلامه، والمعنى أننا لو عرفنا المناسبة التى قال فيها المسيح ما قال لتبدد لدى نظمى الكثير من اللبس.
أما المناسبة فهى أنهم راقبوا المسيح وأرسلوا جواسيس يتراءون أنهم أبرار لكى يمسكوه بكلمة حتى يسلموه إلى حكم الوالى وسلطانه.
فسألوه قائلين: يا معلم... نعلم أنك بالاستقامة تتكلم وتعلم ولا تحابى الوجوه بل بالحق تعلم طريق الله، قل لنا: أيجوز أن نعطى الجزيرة لقيصر أم لا؟
فأدرك السيد المسيح مكرهم، فقال لهم: لماذا تجربوننى؟ أرونى دينارًا، لمن الصورة والكتابة؟
قالوا: لقيصر؟
فقال لهم: أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله.
فلم يقدروا أن يمسكوه بكلمة قدام الشعب، وتعجبوا من جوابه وسكتوا.
يمسك سرجيوس بالقصة كما أوردها، ويقول: هذا هو السياق الذى ساق فيه السيد المسيح قوله هذا، هذا هو القول الحكيم الذى قطع به السيد شباك الأعداء وكسر فخاخهم وحطم مصائدهم، هذا القول الحكيم الذى جعل خصومه يعجزون عن أن يمسكوا بكلمة بل تعجبوا من جوابه وسكتوا.
يغادر سرجيوس الأرض التى تحدث من عليها السيد المسيح، ويعود مرة أخرى إلى نظمى الذى يقول له: أما نظمى لوقا المسيحى فلم يعجبه العجب ولا الصوم فى رجب، فحول العجب إلى اتهام وتشنيع.
بدأ سرجيوس فى محاصرة نظمى أكثر، فبدأ يستعين بما كتبه الكتاب المسلمون عن نفس الآية، منبهًا إلى أن هؤلاء الكتاب لا تخلو مقالة من مقالاتهم فى الكتب والصحف من ذكر هذه الآية الحكيمة: أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله، كلما أرادوا التعبير الدقيق عن وجوب إعطاء كل ذى حق حقه، أما نظمى لوقا المتأسلم المتأرجح بين الإسلام والمسيحية فيتخذ من حكمة الله التى ظهرت فى المسيح وأقواله سمومًا ينفثها وتشنيعات يشهرها.
هل تسمحون لى أن أطلعكم على إحساس يصاحبنى وأنا أدون هذا الجدل الممتد بين نظمى لوقا والقمص سرجيوس سرجيوس؟
إننى لا أستطيع مقاومة الابتسام والضحك الذى يتعالى أحيانًا وأنا أكتب، وأمامى صورة القمص سرجيوس وهو ينتهز أى فرصة لينتقم من نظمى، وتوجيه كل أشكال النقد له.
راقبه وهو ينتهز هذه، بينما يحاول تفنيد وجهة نظر نظمى فى مسألة الله وقيصر.
يقول: لا عجب فله مثيل فى مخلوقات الله، فقد قيل إن هناك نوعًا من الهوام يدعى العناكب تدخل إلى الحقول والبساتين، كما يدخل النحل وتمتص الندى من على الزهر كما يقطفه النحل، ولكن النحل يحول ما يمتصه من الندى إلى شهد شهى، وأما العناكب فتحوله إلى حمى سامة، فمن لم تقع عيناه على فعل العناكب يكفيه أن يراها فى نظمى وما ينفثه من حمى فى كتابه.
يمكن أن تتعامل مع ما يفعله سرجيوس على أنه كتف قانونى، سرعان ما يعود بعده للحديث الجاد.
يقول: لو كان المسيح له المجد لجعل من حكمته البالغة هذه دعاية لشطر العالم ووضع سدًا منيعًا بين الدين والدنيا لما كان أتباعه الذين يؤمنون باسمه ويعتنقون مبادئه كما تراهم ويراهم الناس أجمع أنهم سادة العالم، أمسكوا بناصية الدين والدنيا.
أمسكوا بناصية الدنيا من ثروة وعلم واختراع واكتشاف، وأمسكوا بناصية الدين من آداب وأخلاق ورحمة وإحسان، نشروا الدين وسط الوثنيين والمتوحشين، واعترف لهم نظمى بأنهم هم الناضجون أصحاب السمو والمثل العليا.
يمكن أن تشيد بما قاله سرجيوس.
وإذا أعجبك منطقه يمكن أن تتبعه وتترك نظمى لوقا فى حاله.
لكن المشكلة التى لا يستطيع رجال الدين فى أى وكل دين أن يتخلصوا منها، وهى المشكلة التى يمكن أن تعتبرها آفة كبيرة، أنهم ورغم قدرتهم على الجدل، الذى يقودهم إلى الإقناع ولو بدرجة معينة، إلا أنهم لا يتخلون عن محاولة الإيقاع بخصومهم الفكريين وإيذائهم بشكل كامل.
لقد دارت هذه المعركة فى أواخر العام 1959 وأوائل العام 1960، كانت السلطة الناصرية قد بدأت إحكام قبضتها على كل شىء، وفجأة يكتب سرجيوس موجها كلامه لنظمى قائلا: لست أريد أن أناقشك فى تعقيبك، ولا أريد أن ألفت النظر إلى ثورتك على كل سلطة تمثلها لفظة قيصر، وأترك هذا للأيام التى سوف تكشف عنك أو تكشف أنت «وليس خفى إلا وسيظهر».
ليس فى الكلام إلا تحريض مباشر، وتعريض بنظمى وسيرته، وكأنه جزء من مؤامرة ولا بد من كشفها، مع إيحاء بأن القمص يعرف ما هو أكثر.
هذه هى الآفة الكبرى، كان يمكن الاكتفاء بكتاب سرجيوس الذى رد به على نظمى وينتهى الأمر.
لكن السلطة الدينية عاقبته، فحرموه وقطعوه من الكنيسة ولم يصلوا عليه.
وحاولوا تحريض السلطة السياسية علّهم يتخلصون منه.. وهو ما لم يحدث، لأن السلطة الدينية لا تتعلم الدرس أبدًا، فحصار الفكرة واضطهادها يساعد على انتشارها وخلودها وليس العكس.