رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"ولي ومريد 10"..

عبدالسلام بن مشيش.. الولى المقتول غدرًا


هل تصدقون أن سيدى عبدالسلام بن مشيش، ذلك الولى رقيق المشاعر طيب الوجه، مات مقتولًا! استغنى عن الناس فقتله الناس! والله لقد أوجع قتلُك قلبى يا سيدى، وكأنك قُتلت الآن أمام عينىّ وأنا لا أستطيع الدفاع عنك، وأشد مأساة وطأة على القلب أن يتآمر المتآمرون على حبيبك ويرسلون قاتلًا ليقتله، وأنت تشاهد المشهد كله من وراء الزمن ولكنك تعجز عن مغادرة زمنك لتدافع عنه فى زمنه، خامرنى هذا الشعور بقوة وأنا أكاد أرى رأى العين مقتل الحلاج شهيد العشق الإلهى، وغمرنى وأنا أكاد أرى مقتل ابن مشيش، ولكننى خرجت من ذلك بمعنى، هو أن من يقتل إنسانًا ليس بإنسان، ومن يتآمر على قتل إنسان ليس بإنسان، وخذها منى واعتبرها قاعدة إنسانية، أو دينية، القاتل دون عذر هو أقرب الناس للكفر ولو كان شيخ الإسلام أو بابا البابوات، أو حبر الأحبار، ولا يمكن لإنسان مهما بلغت عبادته أن ينال درجة الولاية والقرب لله إذا قتل أو دعا لقتلٍ، اللهم إلا إذا كان فى موضع الدفاع عن النفس والعرض.

كان محمد ابن شيخنا عبدالسلام بن مشيش يصعد لأبيه فى الجبل بين الحين والآخر ليقدم له بعض أرغفة الخبز، وقطعًا صغيرة من جبن الماعز الذى تتميز به قريتهم، ولفافة من الخضروات الورقية التى يزرعونها فى أرضهم، أما الماء فقد كان شيخنا يتزود به من عين من العيون أسفل الجبل، وكان يعتبر رحلته فى الهبوط للتزود بالماء والصعود لمغارته أعلى الجبل وكأنها رحلة الإنسان الروحية ما بين الهبوط والصعود، حينها كان قد ألزم نفسه بذكر وأدعية يترنم بها وهو هابط، وأدعية يترنم بها وهو صاعد، وأظنكم تتذكرون ما كتبه أبوالحسن الشاذلى عن الصعود والهبوط حينما تقابل مع ابن مشيش، فقد قال عن ذلك: «طلعتُ إليه فقيرًا وإذا به هابط إلىّ».
وضع محمد، ابن شيخنا، الطعام أمام والده وهو يتجاذب معه أطراف الحديث، وعندما سأله والده عن أخبار الناس، وما حدث للدولة الموحدية فى حروبها، والصراعات القائمة بين المذاهب الدينية، ودين الناس كيف هو؟ فإذا بالابن محمد يحكى لأبيه الشيخ عن رجلٍ ظهر بين الناس مؤخرًا يدعى حينا أنه ولى من أولياء الله، ثم تطور به الحال وقال إنه من الأنبياء المرسلين، وإنه يقوم ببعض الألعاب والحيل السحرية ليقنع الناس بنبوته مستغلًا فى ذلك ما أتقنه من علم الكيمياء، وكانت الطامة الكبرى عندما علم شيخنا من ابنه أن عددًا كبيرًا من الناس اتبعوه، والناس فى جهلهم عميانٌ، يحركهم أبناء الشياطين كما يشاءون، مثلما يفعل الساحر الهندى وهو جالس يعزف على الناى أمام ثعبان الكوبرا، فتتحرك مع نغماته يمينًا ويسارًا، والناس من شدة انبهارهم يجودون على ذلك الساحر بأموالهم، وهم لا يعرفون أن الثعبان لا يسمع، ولكنه يتتبع حركة جسد الساحر يمينًا ويسارًا فيتحرك تبعًا لهذه الحركة.
كان ابن مشيش خبيرًا بالنفس الإنسانية، أمده الله بعلم لدنى، وقدرة على قراءة قلوب الناس، فعرف أن هذا الدجال إنما جاء ليفتن الناس ويبعدهم عن طريق الله، وكم من الناس ظهروا فى حياتنا وهم يتلون آيات القرآن الكريم، ويبكون ويتأوهون، ويقولون نحن أحباء الله، وورثة الأنبياء، وهم فى حقيقتهم من جند إبليس جاءوا ليبعدوا الناس عن طريق الله، فإذا بالجهلاء يتبعونهم وهم يظنون أنهم باتباعهم هذا سيكونون فى معيّة الله، وهم فى معيّة إبليس، وعندما أنظر لكبار الدجالين باسم الدين فى عصرنا أتذكر قول الشاعر: «وكنت امرأ من جند إبليس فارتقى بى الدهر حتى صار إبليس من جندى فلو مات قبلى كنتُ أُحسن بعده طرائقَ فسقٍ ليس يُحسنها بعدى»، لذلك انتفض ابن مشيش وقرر أن يترك الجبل ليقف ضد هذا الدجال الإبليسى، فحمل لقيماته وزاده ونزل إلى الناس.
عرف شيخنا أن هذا الدجال يُدعى «محمد الكتامى»، ولكنه اشتهر بين الناس بـ«ابن أبى الطواجين»، وسبب ذلك اللقب هو أن أباه كان من علماء الكيمياء، وكان من مدينة فى الشمال الغربى للمغرب اسمها «القصر الكبير»، وقد لُقب بأبى الطواجين، والطاجن كما تعرفونه «الإناء»، وعلم الكيمياء يقوم على الأوانى، لذلك كان هذا اللقب، وقد ورث الدجال من أبيه صناعة الكيمياء وبرع فيها، فقرر أن يستغلها ليسحر عقول الجهلاء، وعندما نزل هذا المشعوذ على قبيلة ذات شأن من قبائل المغرب، هى قبيلة «بنى سعيد» إذا بمعظم أهل القبيلة يقعون تحت تأثيره ويؤمنون بنبوته، فقد كان يضع أمامهم سائلًا ما، ثم يضع عليه من آنية أخرى سائلًا آخر، وينتظر برهة وهو يتمتم ثم يقول: «اللهم إن كنتُ نبيًا أرسلتنى للناس فأشعل النار فى هذا الماء»، فيشتعل النار فى السائل فيصيح الناس ويُكبرون ويقبلون على المشعوذ، وبمثل تلك الحيل الساذجة أخذت بعض القبائل الأخرى تتبعه وتؤمن بنبوته، والجهل يورد أصحابه موارد التهلكة.
وزاد نفوذ ابن أبى الطواجين، وساعده فى ذلك الضعف الذى لحق بالدولة الموحدية، فما كان من شيخنا عبدالسلام ابن مشيش، وقد بلغ من الكبر مبلغًا وتجاوز الخامسة والستين من عمره، إلا أن وقف وسط الناس، وتنقّل بين القرى يوضح لهم فساد مزاعم هذا الدجال المشعوذ، ولكنه لم يدعُ أحدًا لقتله أبدًا، كانت كل دعوته للناس هو أن يعودوا لطريق الله ويتركوا هذا الرجل وألاعيبه وحيله، ثم حدث أن قامت مناظرة بين شيخنا ابن مشيش وبين هذا الدجال، فلم يكن الدجال يستطيع جوابًا، وأنَّى لهذا المشعوذ الذى لا يعرف شيئًا من الدين ولا يحفظ آية ولا حديثًا أن يناظر من قال عنه العارفون: «ابن مشيش هو فى العلم فى الغاية، وفى الزهد فى النهاية»، أى أنه بلغ غاية العلم ونهاية الزهد، ومن كان هذا هو علمه وذاك هو زهده، فإنه يكون صاحب هيبة ومهابة، فانهزم أمامه الدجال ابن أبى الطواجين، فكان أن انكشف كذبه عند القبائل التى اتبعته وأيدته، فأخذ الناس ينصرفون عنه.
كان ابن مشيش يقضى يومه بين الناس، يشرح لهم خطر هذا الدجال، ويدعوهم للانصراف عنه، ثم يعود إلى مغارته فى الجبل آناء الليل، يناجى حبيبه ويبثه شوقه، يا الله، هل حان وقت اللقاء؟، أما أسفل الجبل فقد أقض مضجع الدجال انصراف الناس عنه بسبب عالمهم ابن مشيش، فكان يقول لأتباعه القريبين: «نزل إلينا الرجل من الجبل بالجدل، وحمل علينا بما حمل، والجائزة لمن قَتَل»، وأتباع إبليس لا يعرفون إلا القتل والاغتيال، وجائزة الدجال تنتظر صاحبها، وهناك فى أعلى الجبل، عندما خرج شيخنا من مغارته ليتوضأ من أجل صلاة الصبح، كان أتباع إبليس يختبئون خلف أحد الأحجار وهم يخفون بين طيات ملابسهم خناجرهم التى سقوها بالسم الزعاف، وها هو شيخنا يجلس القرفصاء وينحنى للأمام ليغترف بيديه من العين ماءً، فإذا بالقاتل يهجم عليه ويضربه ضربة قاتلة فى ظهره، ليقع الشيخ على جنبه، وهنا رأى قاتله، فابتسم، ولعلنى أراه وهو فى ابتسامته هذه أسعد الناس، فهو الآن فى طريقه للقاء حبيبه.