رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«تفكيك الصنم 9»..

محمود خليل يكتب: مخزون الغرور القطبى

جريدة الدستور

عاد سيد قطب من الولايات المتحدة الأمريكية عام ١٩٥٠، وبدأ ينصرف عن الحياة الأدبية والنقدية بصورة كاملة، بعد رحلة طويلة ومنتجة قضاها فى هذا المجال، تتلمذ فيها على يد الأستاذ عباس محمود العقاد، واشتهر كواحد من أهم شراحه وأبرز المدافعين عنه فيما خاضه من معارك فكرية وأدبية، يحكى أبوالحسن الندوى فى كتابه «مذكرات سائح فى الشرق العربى» أن سيد قطب قال له: «لا شك أنى تلميذ من تلاميذ العقاد فى الأدب والأسلوب الأدبى، وله على فضل فى العناية بالتفكير أكثر من اللفظ، وهو الذى صرفنى عن تقليد المنفلوطى والرافعى»، هذه الكلمات المعدودات تؤشر إلى أن العقاد وضع يده على مكمن الداء فى شخصية سيد قطب، فهو يعتنى باللفظ أكثر من الفكرة، وبالشكل أكثر من المضمون. وذلك سمت الشخصيات التى تستغرق فى الخيال حتى يشغلها عن الواقع، وتسيطر عليها النظرة الأدبية حتى تصرفها عن الالتفات إلى الفكرة، فتجعل إنتاجها مصبوغًا فى بعض الأحوال بصبغة إنشائية واضحة.
ربما يكون «قطب» قد تخلص من الآفة التى نبهه إليها «العقاد» فى بعض الأوقات، لكنه رجع إلى الاستغراق الكامل فيها، بعد عودته إلى مصر، حين ارتفع صوته بالنقد للأوضاع الاجتماعية والسياسية السائدة فى مصر، وكان من المبشرين باندلاع ثورة فى مصر، وكان مثله فى ذلك كمثل الكثير من الكتاب، الذين كانوا يقرأون الأحداث فى ذلك الوقت ويراهنون على تغيير كبير مقبل فى مصر، وقد صدقت التوقعات حين قام الضباط الأحرار- بالتعاون مع جماعة الإخوان- بما أطلق عليه حينها «الحركة المباركة»، وتم طرد الملك من مصر ١٩٥٢ وتأسست الجمهورية الأولى عام ١٩٥٣، فى ذلك التوقيت كان نجم سيد قطب يلمع فى سماء الحياة فى مصر، وذلك لسببين: الأول علاقته بالإخوان، والثانى علاقته بالضباط الأحرار، والواضح أن سيد قطب لم يسع إلى أى منهما، إذ كان مخزون الغرور والتعالى الذاتى يمنعه من ذلك كل المنع.
يسجل سيد قطب فى شهادته «لماذا أعدمونى؟» أنه لم يسع إلى الإخوان، بل الجماعة هى التى سعت إليه، ويؤكد أن أعضاءها فهموا أن الإهداء الذى تصدر كتابه «العدالة الاجتماعية فى الإسلام» موجه إليهم، ويؤكد «قطب» أن الأمر لم يكن كذلك، وأن الجماعة هى التى اهتمت به، وأن بعضًا من شبابها داوموا على زيارته بعد عودته من الولايات المتحدة الأمريكية عام ١٩٥٠، لكنه كان مشغولًا عنهم بكتاباته، وقد وجه بعضها إلى مطبوعات الإخوان، مثل مجلة الدعوة، وأن الحال ظلت كذلك حتى قيام ثورة يوليو ١٩٥٢، لقد أراد سيد قطب أن يقول «إن الإخوان هى التى انضمت إليه وليس العكس، وإن ذلك تم بعد قيام الثورة»، وحقائق التاريخ تؤكد أيضًا أن الضباط الأحرار وعلى رأسهم جمال عبدالناصر كانوا من الساعين إلى منزل سيد قطب بحلوان، حيث تعددت اجتماعاتهم معه، خلال فترة التمهيد للثورة، وكأنه أراد أن يؤكد أيضًا أنه لم يسع إلى الضباط، بل هم الذين سعوا إليه.
استغرق سيد قطب فى العمل مع رجال الثورة بعد ٥٢ حتى فبراير ١٩٥٣ عندما بدأ الطرفان يفترقان حين شرع النظام الجديد فى تأسيس «هيئة التحرير»، فاختلف معهم سيد قطب فى هذه المسألة، ومسائل أخرى جارية فى ذلك الحين، لم يجد سيد قطب داعيًا لتفصيلها فى اعترافاته. وأحداث هذه الفترة تقول إن جمال عبدالناصر وظف سيد قطب كورقة من الأوراق التى يصح أن تخاطب بها الثورة المصريين، مستغلًا قدراته الخطابية وحماسه الجارف للثورة، وما تمتع به من حدة فى التفكير وقدرة على الأحكام المطلقة وطرح الأفكار الجريئة، التى كانت تخدم فى ذلك الوقت بعض التوجهات لدى رجال الثورة، ولا خلاف على أن هذه القدرات كانت ستفيد عبدالناصر ورفاقه فى تكوين تنظيم جماهيرى يشكل ظهيرًا شعبيًا لهم «هيئة التحرير»، يكون بإمكانه ابتلاع تنظيم الإخوان، ويبدو أن عبدالناصر ورفاقه اكتفوا باستخدام الإخوان كورقة دعم شعبى لحظة قيام الثورة، لكن النظرة إلى الجماعة اختلفت بعد نجاحهم فى طرد الملك، حين أصبح الرهان على استمرار الجماعة كشريك فى الثورة بما يترتب على ذلك من شراكة فى السلطة أمر عليه محاذير، ويثير فى نفوسهم قدرًا لا بأس به من التوجس، وأحداث التاريخ تقول إن الجماعة كانت طامحة إلى تقاسم السلطة مع الضباط تمهيدًا لابتلاعها كاملة فيما بعد، لكن الضباط كانوا أسرع بخطوة فحسموا الأمر لصالحهم.