رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قصواء الخلالى تكتب: «الحاوى».. هل وقف محمد الباز على «باب الله» أم شُبّه له؟

جريدة الدستور

لمدة عام تقريبًا وأنا أكتب فى هذه المساحة من جريدة «الدستور» باختلاف الأيام، فقط انشغالى أو تعكر مزاجيتى يعوقانى عن شغف الكتابة، لكننى مارست فى هذه المساحة كل ما أردت من حيل كتابية وتراكيب سياسية ومغامرات تعبيرية، دون أى تدخل من القائمين عليها، وكان هذا يشعرنى بقدر كبير من الراحة النفسية، ولأن المركزية تتجلى فى المؤسسات المصرية فيمكنك أن ترى أنه لولا اتساق الأمر مع إدارة رئيس تحرير الجريدة ما ظهر للنور مقال دون تقعره، وهنا تستطيع أحيانًا أن تنسج وقفة فى عقلك، مع هذا الرجل!.
ذكرته فى مقال سابق منذ شهور طوال، ووصفته بأنه «الحاوى»، وقلت إن هذه الكلمة، لغويًا، تعنى الوعاء الذى يحتوى الأشياء، أو مروض الأفاعى، أو صانع الألعاب السحرية، ولو كنت عزيزى القارئ تعرف الوسط الصحفى والإعلامى وصناعته وإدارته، ولو علمت تاريخ «محمد الباز» جيدًا، لاتفقت معى على الفور بأنه يستحق هذا اللقب عن جدارة، فالرجل يمارس هذا الوصف فى رؤيته لجريدة «الدستور»، أو أثناء تقديمه برنامجه «٩٠ دقيقة» على شاشة «المحور»، والذى بمجرد مشاهدته، لو كنت لا تعرفه، فستتوقف أمامه، ليس عشقًا فى شخصه، ولكنه سيستفز خبراتك ومعلوماتك بما ستسمع منه من تفاصيل دقيقة وحقيقية ومدلل عليها، وسيطلق لك رؤية وتحليلًا للأمر المستهدف لن تملك أمامهما إلا أن تتفهم ما سيقوله لك، وربما قد تختلف معه وتلعنه فى ذاتك لوجهة نظره تلك، لكنك ستعود إليه غدًا من أجل المزيد من الاستفزاز المتواضع البسيط المباشر للغاية، وبموضوعية، هو ليس نجمك من المشاهدة الأولى، لكنك ستتحدث معه كلما ظهر على الشاشة ليخبرك بزاوية جديدة، ويشعرك بأنه يقنعك أنت بشخصك فقط، ليشيح لك بكفيّه فى هدوء قد يدفعك لتحطيم التليفزيون من فرط ثقته وعصبيتك الرافضة لها، سيراقص ثعابين عقلك حتى ترغب فى لدغه، ويخرج لك من طاقية المشهد الدامى أرانب الحقول وطيور السلام، حتى يتحول تباعًا لمصباحك البدائى فى فترات الظلام المعلوماتى.
حتى فى مقالاته أو كتبه، على كثرتها، ستجده «الرفاعى»، ومع اختلافى معه فى الكثير مما خط قلمه ورسم عقله، إلا أننى أقرأ له بذات الحدة الشغوفة وأنتقده حتى لو كنت متفقة مع وجهة نظره، هو هكذا يشتبك مع عقلك بلا هوادة، ثم تكتشف أنه على وفاق تام معك وكأنك كنت تصارع طواحين الهواء سابقًا، فالرجل لا ينزعج بتاتًا، وكنت أسأل كلما جمعنى به موقف مشابه: لماذا يطرق كل هذه الأبواب؟ وهل يدعى هذا السكون؟، لكننى وجدت الجواب!
فمع بداية شهر رمضان شاهدت له برنامجًا يقدمه على قناة «الغد العربى»، يسمى «باب الله»، وانتظرت كعادتى أن أرى فيه بعضًا من «الحاوى»، وبضعًا من حَيَّاتِه وطواقيه، لكنه فاجأنى بما شاهدت، لقد كان كالعادة هادئًا فى طلته، عاصفًا بما يطرح من أفكار، لكنه لا يمارس فنونه وخفة يده، ولا يشعرك بأن الحقيقة غائبة وأنه مولاها، لقد كان يعرض أمرًا بديهيًا بكل مسالمة وقناعة، لم يكن «الحاوى» الذى أعرفه!
نزع «محمد الباز» عباءته فى هذا البرنامج، فقدّم الإيمان بمفهومه وليس بمظهره، ووثّق يقينه بألوهية رب الكون وخالقه، وبَيَّنَ اعتقاده فى رحمة الرحمن، وصنع جديلة من الخطائين التوابين المتقربين إلى الغفور، وعرض حُسن الظن بالله يصاحبه حُسن الخاتمة، ومع تسلسل الحلقات وتتبعى لها، وجدته يفتح جراحًا مغلقة على عفنها، ويفنّد نزعات الشيطان فى نفوس الباحثين عن الله فى ملكوته، لقد كان يتحدث بالمنطق العقلانى، وكنت أسمعه بالفلسفة الإنسانية، وأنا أمدح قناة ومؤسسة سمحت بظهوره علينا بجرأة فى غياهب الإعتام الدينى الجمعى وتخبطه، حتى صرت أُمنى نفسى باستمراره بعد الشهر المعظم.
ورغم أن ديكور البرنامج إخبارى، إلا أنه لن يشكل لك فاصلًا روحانيًا فى أن تنصت لما يزرع أمامك الرجل من أغصان للزيتون أو أشجار عتيقة ظليلة للكافور، وستكتفى بأن تتعرف على هذا الرابط بين الفنانة «سعاد حسنى» ورهبان «بوذا»، أو ناسكى «أديرة» بعيدة حتى عن أطلسك، وشيوخ لم يمنعوا «التصوف» و«التشيع»، أو ألحان بليغ حمدى، وابتهالات العاشقين، وستسمع يا عزيزى كأنك ترى.
وبين واقع «باب الله» وخرافات الذين اعتقدوا أنهم يحتكرونه ويمنحون صكوك العبور منه، ستفجع بهجوم لاذع عشوائى على هذا العمل، يخبرونك بأنه ليس المدخل لجنة عرضها السماوات والأرض، وأن مقدم البرنامج وصاحب الرؤية قد شُبّه له الباب فوقف وكتب وتحدث إفكًا، مؤثمين الوصول إلى الله بالقلب والعقل والتدبر، متناسين أن الله أقرب إلينا من حبل الوريد، وأن الجدال فى قربه لا يكون إلا بالتى هى أحسن، وأن ما يُطرح فى الحلقات مفاده أن حب الله مدخل لرحمته وفضله، إذا أسلمنا القلوب له صدقًا، فأعلنوا الحرب ولم يدركوا أن «محمد الباز» وقف هذه المرة على الباب الوحيد الحقيقى والمفتوح دائمًا.. «باب الله».