رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الاعتذار وحده لا يكفى يا شيخ عائض


عندما قرأت وسمعت اعتذار الداعية السعودى «الإخوانى» عائض القرنى، عن أفكاره التى انتشرت كالنار فى الهشيم فى فترة ما عُرف بـ«الصحوة الإسلامية» واعترافه بأنه هو ورفاقه خالفوا القرآن والسنة، عندما قرأت ذلك، تذكرت الذين غسلوا عقولهم خلال الأربعة عقود الماضية، وهى سنوات صحوتهم، وكيف ترك طلاب فى كليتى الطب والهندسة وغيرهما دراستهم وأصبحوا يبيعون العسل وسلعًا أخرى على أبواب المساجد فى مناطق مختلفة فى مصر فى الثمانينيات.. وكان من بين هؤلاء صديقان مقربان تبدلت أحوالهما رأسًا على عقب، فبعد أن كانا من المتفوقين الواعدين تحوّلا إلى عضوين فى جماعات متطرفة ترعرعت فيما عُرف بـ«عصر الصحوة»، وسجن أحدهما وهرب الآخر إلى خارج مصر، ولا أعرف إن كان قد عاد أم لا؟.

كان هناك من هو أسوأ حظًا من هذين الصديقين «السابقين»، فهناك بعض الشباب المصرى والعربى من ترك وظائف مرموقة فى البنوك بدعوى أنها بنوك ربوية، وهناك شباب تركوا أسرهم بحرقة فى قلوبهم وذهبوا يرفعون السلاح ويفجرون أنفسهم فى أصقاع الأرض بدعوى الجهاد لنصرة الإسلام والمسلمين، منهم من قتل فى أفغانستان أو فى البوسنة أو حتى فى العراق وسوريا واليمن، وهناك من تحوّل إلى «انتحارى» بسبب شعارات الجهاد التى سمّته «استشهادى»، هذا غير آلاف الشباب الذين قبعوا فى السجون لسنوات بسبب جرائمهم باسم الجهاد- والجهاد الحقيقى منهم براء- وعندما خرجوا للحياة وجدوا أنفسهم بلا أمل.
لا أعرف كيف سيستقبل هؤلاء اعتذار عائض القرنى، الذى أعتقد أنه لن يكون الاعتذار الأخير، فلن يسمح لهم أحد بعد الآن بالإساءة إلى الإسلام، وتشويه صورة المسلمين وتحويلهم إلى إرهابيين فى عيون كثير من الغربيين، ولن يسمح لهم أحد بهدم أوطانهم بخطب حماسية تفتح علينا أبواب الجحيم، وهم يوهموننا بأنهم يفتحون لنا أبواب الجنة.
ما الذى سيفيد الناس باعتذار هذا الرجل الذى انتشرت أفكاره بشكل رهيب وتم توزيعها على أشرطة الكاسيت فى الثمانينيات والتسعينيات؟.. وما جدوى هذا الاعتذار؟، هل سيعيد الأرواح التى أزهقت، أو الدماء التى سالت، هل سيطفئ حرقة قلب أب أو أم فقدا ابنًا أو أكثر بسبب أفكار القرنى وأمثاله؟.
الاعتذار وحده لا يكفى، لأن الثمن كان باهظًا، فهو الذى دفع آلاف الشباب دفعًا للتوجه إلى أفغانستان وحمل السلاح هناك، وكان يدعوهم فى خطبة نارية حملت اسم «فتح الفتوح»، قائلًا: «لو قال لهم العالم إنهم متطرفون أو إرهابيون، فهم إنما يجاهدون فى سبيل الله».
وهو أول من طالب جنود الجيش العربى السورى بالانشقاق عن بشار الأسد، فكانت فتنة سوريا التى أدت لقتل عشرات الآلاف وتهجير نصف الشعب، ليذوق العذاب والهوان على مدى ثمانية أعوام.. لقد قالها صراحة: «إن قتل بشار الأسد أوجب من قتل إسرائيلى»، تمامًا كما قال أبوبكر البغدادى: «إن الله لم يأمرنا بقتال الإسرائيليين»، ولكن هل أمرهم الله بقتال المسلمين فقط فى مصر وسوريا واليمن والعراق؟.. لقد سلك نفس الطريق الذى سار عليه شيوخ وأمراء التطرف والتكفير فى عالمنا العربى، الذين جعلوا الشقاء من نصيب المسلمين والدول الإسلامية فقط، لتعيش إسرائيل فى أمن وأمان وفى رغد العيش.
لقد اعتبر كثيرون عائض القرنى من مشايخ القاعدة ومن ملهمى داعش بخطبه الحماسية ومحاضراته التكفيرية والتى تضمنت الخروج على ولاة الأمر. كم قتلت يا عائض القرنى؟.. وكم سجنت بفتاواك وبخطبك النارية؟، وبالمناسبة فإن له أكثر من ٨٠٠ خطبة صوتية و٥٠ خطبة مرئية، هذا غير عدد كبير من الكتب، منها على سبيل المثال لا الحصر: «الإسلام وقضايا العصر، ثلاثون سببًا للسعادة، المعجزة الخالدة، تحف نبوية، مملكة البيان، خارطة الطريق، السمو، شخصيات من القرآن الكريم، حتى تكون أسعد الناس، سياط القلوب، فتية آمنوا بربهم، هكذا قال لنا المعلم، من موحد إلى ملحد». وتناول فى هذه الكتب كل ما روّج له من أفكار فى عهد صحوته، من الجهاد وحمل السلاح والخروج على الحكام، وانتهاء بتحريم قراءة الشعر وتحريم قيادة المرأة للسيارة. وقد حقق من هذه الخطب والكتب ثروة هائلة، حيث نُشر الكثير عن قصره الذى تكلف بناؤه سبعة ملايين ريال سعوى، ومزرعته التى لا تدركها العين، وأمواله الطائلة فى البنوك وأسطول السيارات الفخمة التى يمتلكها، فهل سيترك عائض القرنى كل هذه الثروة التى جناها من ترويج أفكار اعترف بخطئها، واعترف بأنها تسببت فى التضييق على الناس؟.. هل سيسحب هذه الكتب والأشرطة من الأسواق ويحرقها؟. هل ستتقاعد- يا عائض- وتقى الناس من شرور أفكارك التى روّجتها على مدى ثلاثين عامًا، واعترفت بأنك خالفت فيها القرآن والسنة.. أم ستعود إلينا فى ثوب جديد كداعية وسطى جميل، تدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة؟ وهل تعتقد إن فعلت هذا ستجد من يصدقك؟.
إذا كنت قد فعلت كل هذا ببلادنا وبشبابنا وبإسلامنا وهو الأهم، فلا أعتقد أنه يكفينا منك اعتذارًا، بل نطلب منك «التوبة» عما اقترفت يداك، من خطايا، لعل الله يقبل توبتك ويغفر لك.
تُب إلى الله وأغلق فمك إلى الأبد.. لعل الله يرحمك، ولعلنا ننسى ما فعلت بنا.