رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أمريكا وإيران.. الحسَّابة بتحسب!


العلاقة بين «الشيطان الأكبر» و«العمائم السوداء» شديدة التعقيد، ولم يكن التوقيع على الاتفاق النووى بين إيران ومجموعة الدول «٥+١»، صيف ٢٠١٥، غير حلقة من مسلسل طويل بدأت أحداثه سنة ١٩٥٥، بتوقيع معاهدة صداقة- لا تزال سارية- بين البلدين، وتطورت مع سيطرة «آيات الله» على الحكم فى ١٩٧٩، وقطعًا لن تنتهى أحداث المسلسل بتلك الحلقة الجارى عرضها هذه الأيام.
حاملة الطائرات «إبراهام لينكولن» ومجموعتها الهجومية التى تتضمن سفن تدخّل ومدمرات وعددًا من المقاتلات فى الخليج العربى الآن، وقاذفات «بى-٥٢» فى قاعدة العديد بـ«قطر» حليفة إيران، ومن المفترض أن تكون قد لحقت بها السفينة الحربية «أرلينجتون» بما تحمله من قوات مشاة البحرية «المارينز» وعربات برمائية ومعدات ومروحيات إلى جانب منظومة «باتريوت» للدفاع الجوّى، ووسط هذه «المعجنة»، ذكرت شبكة «سى إن إن» أن البيت الأبيض أجرى اتصالًا تليفونيًا برئاسة سويسرا، التى ترعى سفارتها المصالح الأمريكية فى طهران، وأعطاها رقم تليفون يتيح للإيرانيين التواصل مباشرة، لو أرادوا التفاوض.
صباح يوم ١٢ يناير ٢٠١٦، كان جون كيرى وآشتون كارتر، وزيرا الخارجية والدفاع الأمريكيين الأسبقين، مجتمعين بنظيريهما الفلبينيين فى مقر وزارة الخارجية الأمريكية، حين وصلهما خبر احتجاز القوات البحرية التابعة للحرس الثورى الإيرانى زورقين أمريكيين، وإلقائها القبض على ١٠ عسكريين بينهم امرأة، كانوا على متن الزورقين، بزعم اختراقه المياه الإقليمية الإيرانية، أما الرواية الأمريكية فقالت إن الجنود كانوا فى طريقهم من البحرين إلى الكويت، وتسبب عطل فنى فى خروجهم عن خط سيرهم، ولم يقصدوا اختراق المياه الإقليمية الإيرانية.
فى التاسعة والنصف بتوقيت طهران، الواحدة ظهرًا بتوقيت واشنطن، رنّ جرس تليفون مكتب محمد جواد ظريف، وزير الخارجية الإيرانى، وكان «كيرى» على الطرف الآخر، وبعد شد وجذب وخمس مكالمات أخرى، تم الإفراج عن جنود البحرية الأمريكية قبل مرور ١٥ ساعة على احتجازهم، وجاء فى بيان أصدره الحرس الثورى الإيرانى وقتها: «بعد التدقيق، تبين أن دخولهم المياه الإقليمية للبلاد لم يكن عن قصد، وبعد تقديمهم الاعتذار تم إطلاق سراحهم فى المياه الدولية».
طوال أحدث هذا الفيلم، أى منذ بدايته إلى نهايته، كانت حاملة الطائرات الأمريكية «ترومان»- الموجودة فى المنطقة نفسها- ترصد المشهد مكتفية بالفرجة، وإلى جوارها نظيرتها الفرنسية «ديجول». بالضبط، كما اكتفى العالم كله بالفرجة على السفينة الإيرانية «شهر كرد»، التى كانت ترسو منذ أيام فى ميناء مصراتة الليبى، وهى تحمل حاويات بها نحو ٢٠ ألف صاروخ من مختلف الأحجام والأنواع، كانت فى طريقها إلى الميليشيات الإرهابية الموالية لما يوصف بحكومة الوفاق الليبية المدعومة أيضًا، من تركيا مع ملاحظة أن الدول الثلاث «أمريكا، إيران، وتركيا» تشاركت فى احتلال العراق، وفى حماية دويلة قطر واستخدامها، كما لم يكن إيواء طهران لفلول «القاعدة» سرًّا، كذلك لم تكن تركيا بعيدة عن تسمين «داعش» وتمكينه، بعد أن أخرجته الولايات المتحدة من رحم «القاعدة»، وفتحت له أبواب سوريا والعراق، بمساعدة ثلاثى الشر وإسرائيل، وعليه لن تكون مخطئًا لو اعتقدت أن ما حدث ويحدث وما سيحدث، ليس أكثر من سيناريو متفق عليه.
تفاصيل أكثر، عن تلك العلاقات المعقدة، ستجدها فى كتاب عنوانه «فقدان عدو: أوباما، إيران، وانتصار الدبلوماسية»، لـ«تريتا بارسى»، أو «تريتا فارسى»، وهو إيرانى الأصل يحمل الجنسية السويدية ويقيم فى الولايات المتحدة، وله كتاب ظريف صدر فى ٢٠٠٨ عنوانه «التحالف الغادر: الصفقات السرية بين إسرائيل وإيران والولايات المتحدة»، تناول فيه العلاقات بين هذا الثلاثى، وأوضح كيف أنها تختلف كثيرًا عن الصورة الشائعة أو القائمة، وتتجاوز الحرب الكلامية، والمعادلة الثابتة للوفاق أو الصراع، لتشمل صفقات وتفاهمات غير معلنة، وفى ٢٠١٢ اتضح أن بارسى أو فارسى تربطه علاقة قوية بجواد ظريف، وأنه قام بتنسيق لقاءات بين أعضاء فى الكونجرس من الحزبين الجمهورى والديمقراطى مع مسئولين إيرانيين.
الخلاصة، هى أن الولايات المتحدة اعتادت أن تبالغ فى تقدير و«تصدير» الخطر، وأن تقوم باختراعه، حال عدم وجوده، ليكون «تلكيكة» أو «فزاعة»، تبتز بها الدول الواقعة تحت مظلتها أو سيطرتها، ولم يعد خافيًا، مثلًا، أنها خلقت «أو استغلت» حالة عدم الاستقرار التى عاشتها المنطقة العربية، فى السنوات الأخيرة، وأتاحت لتركيا وإيران إنشاء مناطق نفوذ، وحرضت وشجعت قطر، على دعم وتمويل تنظيمات إرهابية. ولم يحكم ذلك كله غير المعادلة التى حكمت فيلم «عنتر شايل سيفه»: الساعة بخمسة جنيه والحسَّابة بتحسب»، مع الفارق الكبير، طبعًا، بين سعر «ساعة وسيف» الأستاذ ترامب و«ساعة وسيف» الأستاذ عنتر أو الزعيم عادل إمام.