رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«ولى ومريد ٧»..

بن مشيش.. على جبل العَلَمْ التقى العلمان


بعد أن دار الحوار الأول بينهما إذا بعبدالسلام بن مشيش يطلب من الشاذلى أن يذهب فيغتسل، فذهب واغتسل ثم عاد، وحينما نظر إليه ابن مشيش طلب منه للمرة الثانية أن يذهب ويغتسل، فظن الشاذلى أنه لم يُتقن الغسل، فعاد واغتسل وتحرى الدقة كلها أثناء الاغتسال، ثم عاد إلى شيخه وقد ظن أنه نفَّذ ما طُلب منه، فإذا بالشيخ يطلب منه للمرة الثالثة أن يذهب ويغتسل، هنا أدرك الشاذلى أن الأمر على خلاف ما كان يعتقد، لقد كان الشيخ يطلب منه أن يغتسل من أدران الدنيا وأوحالها، أن يغسل قلبه من التعلق بها، أن يغسل ذاته من الشعور بذاته والتيه بها والإعجاب بعلمه، وعندما عرف الشاذلى تم الوصال، وجلس التلميذ بين يدى أستاذه، وساح معه فى ملكوت آخر وآفاق أخرى.
كانت يد الفلاح الصوفى عبدالسلام بن مشيش معروقة خشنة قوية، فهو ابن الأرض وابن الجبل، يده حفرت الأخاديد وشقت الجبل، ووجهه فى نورانيته وطهارته كوجه طفل لم يصافح أهوال الدنيا بعد، بشوش لا تملك إلا أن تحبه عندما تراه، وعن هذا اللقاء قال أبوالحسن الشاذلى: «خرجتُ من علمى وعملى وطلعت إليه فقيرًا، وإذا به هابط علىَّ، فقال لى: مرحبًا، طلعت إلينا فقيرًا من علمك، وعملك فأخذت منا غنى الدنيا والآخرة»، فى هذا اليوم وما بعده عرف الشاذلى كيف يجعل جسده طوعًا لقلبه، وإنها لعظيمة إلا على المُخْلَصين، وما إن مرت أيام وأيام أخذ الشاذلى يتلقى فيها من ابن مشيش، حتى انتقل من حال إلى حال، عرف فيها أنه أصبح الآن يرى الحقيقة، ولكن رؤية الحقيقة غير الوصول إليها، وأمامه طريقٌ طويل ليصل، أما أول نقطة من الممكن أن تلتقى فيها بالله هى وقت أن تلمس جبهتك الأرض ساجدًا لله، ولكن لا يمكن أن تلتقى بالله بمجرد أن تلمس جبهتك الأرض فقط، ولكن يجب أن يخضع جسدك كله لجبهتك، القلب إن عصى الجبهة ولم يسجد فإنك لم تفعل شيئًا، أرأيت إن سجد وجهك للذى فطره ولم يسجد قلبك للذى دب فيه الحياة، أفكنت على شىء من السجود؟! لحظة السجود هى لحظة إعلان الخضوع لله، وأعلى درجات الحرية هى أن تخضع لرب العالمين لا لسواه من خلق الله، يخضع قلبك وتخضع حواسك وتخضع أنفاسك، فإذا خضعت لله ساجدًا، جسدًا وروحًا، فإنك تكون قد أعلنت بذلك تحرر روحك من أسر الخلائق ووصلت نفسك برب الخلائق، ولكن رحلة الوصول طويلة، والأيام التى نعدها من أعمارنا قليلة.
إذا أمعنت النظر فى كيفية اللقاء بين أبوالحسن الشاذلى وكنزه أو أسطورته القطب «عبدالسلام بن مشيش» ستجد مقاربة ما مع قصة «باولو كويلو» الشهيرة «الخيميائى» فقد كان الراعى الأندلسى «سانتياجو» يجلس فى بيته وينام تحت شجرة تظلل جانبًا من ساحة داره، وهو فى نومه كان يحلم بكنز، أصبح هذا الكنز أسطورته الخاصة، وأيقن بوجوده وأنه سيتحقق له إذا ما سعى إليه، فعقد العزم على أن يسافر ويترحل من بلده الأندلس ليصل إلى الكنز، وأين الكنز؟ أشارت العلامات إلى أن كنزه مدفون فى مصر تحت سفح الهرم، فسافر سانتياجو أولا إلى المغرب، وأخذ يتنقل ويرحل، ويعمل ليكتسب رزقه ونفقات سفره، وأحب فتاة فكر أن يتخلى عن أسطورته من أجلها، ولكنها تدفعه للمضى قدمًا فى البحث عن كنزه، ثم أخيرًا يصل إلى مصر، ويقترب من الهرم، ويصل إلى الصندوق، وتفاجئه عصابة من اللصوص، فيعتدون عليه بالضرب حتى كاد يفقد حياته، وحينما فتح أفراد العصابة الصندوق وجدوه خاليًا، اللهم إلا ورقة بالية، فيتركونها ويتركونه، وحينما يقرأ الورقة يجد بها خريطة تقوده للكنز، ولكن أين هذا الكنز؟ إنه مدفون تحت الشجرة التى ينام تحتها فى بيته بالأندلس!. وهكذا نحن، تكون أسطورتنا بين أيدينا وتحت نظرنا، ولكننا لا نبصرها، وهكذا كان أبوالحسن الشاذلى، كانت أسطورته وكنزه مخفيين فى جبل من جبال بلاده بالقرب من قريته، ولكنه لم يرههما ولم يعرف مكانهما إلا عندما سافر وارتحل وأخذ يبحث عنهما، وحينما أهلكت الدنيا قدمه أرشده النور إلى النور، فعاد إلى المغرب ليذهب إلى جبل العلم، ويلتقى بكنزه، فيغترف منه ما استطاع من النور.
من حسن الأدب مع سيدى عبدالسلام بن مشيش أن نترك تلميذه «أبوالحسن الشاذلى» قليلًا لنعيش معه ونتتبع خطوات حياته، ثم ستكون لنا عودة مع التلميذ الذى أصبح فيما بعد قطب زمانه، وقد كان أول ما استوقفنى فى القطب ابن مشيش هو لقبه، «ابن مشيش»، إذ إن هذا اللقب ليس اسما من أسماء أحد أجداده، فهو عبدالسلام بن سليمان بن أبى بكر بن على، وهكذا وصولا إلى جده الأكبر سيدنا الحسن سبط رسول الله، فالأكبر سيدنا على وستنا فاطمة ابنة أكبر الأكابر سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، وفى كل تلك الأسماء لا يوجد مشيش، ثم ما معنى مشيش؟! ظللت زمنًا مشغولًا بهذا الأمر، وكنت أظن فى البداية وفقًا لقواميس اللغة أن مشيش معناها بياض يصيب العين، أو ما يُسمى طبيًا مرض المياه البيضاء، فقلتُ لعل والده كان قد أصيب بهذا المرض فاشتهر به، ثم وجدت أن مُشيش هى تصغير كلمة «مُشاش»، وهى تعنى الأرض اللينة التى تمتص الماء بسهولة ويسر، كما أنها تعنى أيضًا الرجل الكريم السهل لين القول، وفيما بعد وقعتُ على كتاب صادر عن أحد الباحثين من المغرب عن أصول العائلات والألقاب فى المغرب، فوجدته يصنف كلمة «مشيش» باعتبارها من اللغة الأمازيغية، ويقول إن أصلها بشيش، ولكنها قُلبت عند نطق العوام إلى مشيش، أما معناها فهو يقترب من اللغة العربية إذ إنه يعنى الرجل صاحب الوجه البشوش المبتسم، ويبدو أن هذه كانت صفة تلازم والده سليمان وجده أبا بكر، فقد كانا من الأولياء الصالحين، عُرفا بالصلاح والتقوى، ولجده ضريح كبير بالقرب من قريتهم «الحصن» لا يزال الناس يتخذونه مزارًا.
وقد ساعدنى بحثى هذا فى لقب مشيش على معرفة الأمر الذى تميز به أعلام تلك الأسرة، والذى أصبح سمةً من سمات سيدى عبدالسلام، وهو الوجه البشوش الطيب، ولكن كيف كانت حياة هذا القطب، وما هو علمه، وعبادته، وزهده، وكيف وصل إلى هذا القدر من التأثير، وكيف ظل مخفيًا ولم يُعرف إلا من حديث أبوالحسن الشاذلى عنه، هذا ما سنكتبه فى الحلقة المقبلة.