رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الولاء والبراء.. تعايش لا كراهية


«الولاء والبراء» من القضايا التى لم يتوقف الجدل حولها، فى ظل نظرة الغلو والتشدد من قبل بعض المنتسبين إلى الإسلام، تجاه كل ما له علاقة بالآخر المختلف معه فى الدين والعقيدة، نظرة تضيق معها مساحة التعاون وتسود فيها القطيعة، وقد تكون سببًا فى صدام غير مبرر فى بعض الأحيان.

وما ذلك فى الحقيقة إلا لأن هناك خللًا كبيرًا فى الفهم لدى البعض فى فهم قضية «الولاء والبراء»، فهم يرون أن علينا التبرؤ من كل من هو غير مسلم، ولا نحب ولا نود إلا المؤمن فقط، بحسب فهمهم الخاطئ لقول الله تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ».
وانطلق أصحاب الفهم الخاطئ وفق هذا المنظور، إلى القول- على غير الحقيقة- بأن الإسلام يوجب قطع العلاقات مع غير المسلمين، بل وكراهيتهم والتبرؤ منهم، وهذا من الظلم البين للإسلام، الذى لم يأمر بذلك، ولو كان كذلك لما تعامل النبى صلى الله عليه وسلم مع المسيحيين واليهود بكل لطف وسماحة، فقد كان يخالطهم ويحاورهم، وجعل لهم قوانينهم، ولم يفرض عليهم قوانين الإسلام، وكان يعاملهم بالعدل، ويرفع الظلم عنهم.
وعندما هاجر النبى إلى المدينة، عقد معهم اتفاقًا، وأقر لهم حقوقًا تحميهم، لم يجبرهم على اعتناق الإسلام، بل ترك لهم حرية الاختيار، وتعاهد معهم على أن يدافعوا معًا- المسلمين واليهود- عن المدينة ضد أى خطر خارجى تتعرض له، لم ينقض اتفاقه معهم، فقد كان حريصًا على التعايش السلمى، ومع ما لاقاه منهم، إلا أنه لم يبادر إلى نقض الاتفاق، حتى نقضوه هم، وأخلوا بالاتفاق معه، فناصبهم العداء.
وهذا النموذج من العلاقات بين المسلمين وغيرهم يؤكد حقيقة أن «الولاء والبراء» مصطلح حربى وليس اجتماعيًا، ينطبق على حالة الحرب فقط، فعند وقوع حرب بين المسلمين وعدو لهم تنطبق هذه الآية، وعندها يكون أمرًا طبيعيًا ومنطقيًا فى عرف كل الدول والشعوب، فلا أحد يقبل الولاء للعدو المعلن للعداء والحرب دائرة بين الطرفين.
لا نقول بهذا الرأى نتيجة اجتهاد فى الفكر، أو لهوى فى النفس، بل استنادًا إلى العديد من الأدلة التى تدحض هذا الفهم الخاطئ لقضية «الولاء والبراء»، إذ إن هناك العديد من النصوص فى الكتاب والسنة التى تؤكد على رعاية حقوق غير المسلمين بل وبرهم والإحسان إليهم.
يقول تعالى «لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ»، فالقسط هو العدل، والبر هو الإحسان وهو شىء فوق العدل، والعدل أن تعطى الحق، والبر أن تتنازل عن بعض حقك أو حقك كله.
وقد ذكر الفقيه الأصولى شهاب الدين القرافى فى معنى البر: «الرفق بضعيفهم وإعانة فقيرهم، وإطعام جائعهم، وكساء عاريهم، ولين القول لهم، وحفظ غيبتهم وصون أموالهم وعيالهم وأعراضهم».
قال القرطبى: آية البر محكمة، أى أن هذا هو الأصل فى التعامل مع غير المسلمين.
أما إذا أردت أن ترى التطبيق العملى لذلك، فستجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عاد المرضى من غير المسلمين، وقبل الهدايا من غير المسلمين، وقدم الهدايا لغير المسلمين، واستأمن على نفسه فى الهجرة دليلًا من غير المسلمين، وأباح طعام غير المسلمين، وأكل وشرب معهم، وأمر بحماية كنائسهم ومعابدهم وأحسن إلى رهبانهم، وأسكن نصارى نجران المسجد النبوى أثناء حواره معهم وقَبِل أن يصلوا فيه صلاتهم.
وجعل النجاشى ملك الحبشة المسيحى، قبل أن يسلم وكيلًا له فى زواجه من السيدة أم حبيبة عندما كانت مهاجرة بالحبشة.
فهل المتشددون الذين يغالون فى مفهوم «الولاء والبراء»، أكثر فهمًا من رسول الله، أو أكثر تدينًا منه؟! فقد قدم الرسول نماذج عملية فى حياته، حتى يسلك من يأتون بعده مسلكه فى معاملة الآخر المختلف معهم فى العقيدة، ولا ينكر عليه أحد ذلك، لأن كل ما فعله النبى نحن مأمورون به، فالولاء والبراء فى الحرب فقط، أما غير ذلك فالأصل هو العدل والبر والتعاون والتراحم مع كل الناس.
وعلى ضوء هذا النهج النبوى، يجب أن يسير كل مسلم، مقتديًا بهدى الرسول فى التعامل مع غير المسلمين، فلا ظلم، ولا جور، ولا قطيعة مع أحد، ما دام ليس هناك ما يستوجب ذلك، فالتعامل مع الآخر- أيًا كانت عقيدته- لا يعنى الإيمان التام بما يؤمن به، ولا يعنى الإقرار التام بما يخالف عقيدة المسلم، فلكل دينه الذى يؤمن به.
فهل لنا أن نتخيل لو قصر المسلمون تعاملاتهم على بعضهم البعض، ورفضوا التعامل مع غيرهم بكل أشكال المعاملة، كيف سيكون الحال وقتها؟ لا أعتقد أن الأمر سيكون مفيًدًا بأى حال، فالإسلام رسالة منفتحة على الجميع، لا يقبل بانغلاق المسلمين على أنفسهم، تحت مسمى «الولاء والبراء»، بل إنه يطلب منهم أن يقدموا نموذجًا عمليًا يجسدون فيه صورة الإسلام الحقيقية، التى عمد البعض إلى تشويهها، بسبب فهمه الضيق، وقصر نظره.
والحقيقة التى لا يجب غض الطرف عنها، أن المجتمعات البشرية قائمة على التعاون بين أفرادها، أيًا ما كانت معتقداتهم، وتشتد الحاجة إلى ذلك فى العصر الحالى أكثر من أى وقت مضى، فلا مناط من الاعتراف بضرورة التعايش المشترك، فى إطار «المواطنة»، التى تكفل للجميع كل الحقوق، وتلزمهم بكل الواجبات على قدر من المساواة.
وإذا ما أردنا النهوض بأمتنا، والارتقاء بها إلى أعلى درجات التقدم، فإن ذلك يستلزم الفهم الصحيح الواعى للدين، والتعامل مع غير المسلمين على أساس من المودة والرحمة، فلا غلو وتشدد فى فهم مصطلح «الولاء والبراء»، كما يفعل البعض، فيضر بالإسلام من حيث أراد أن يدافع عنه، فالإسلام هو دين السلام للعالم والنبى بعث رحمة للعالمين، وهذا جوهر الإسلام وحقيقته التى يجب أن تظل على الدوام حاضرة فى عقل ووعى كل مسلم سلوكًا وممارسة.