رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ثالوث يذل الناس ويكسر عظامهم ويميتهم أحياء


نحن مجتمعات تقف فى منتصف الطريق وترقص على السلالم، لسنا كالمجتمعات الأوروبية التى ثارت ضد سلطان وتسلُّط الكنيسة فى العصور الوسطى، وقررت بعد كفاح دموى طويل فصل الدين عن الدولة وإقامة المجتمع المدنى العلمانى، حيث الدين أمر خاص للأفراد، وعلاقة شخصية بين الإنسان والإله الذى يختاره،
وليس لأحد، مهما كان، أن يسائله أو يراقبه أو يتهمه أو يوعظه بخصوص هذه العلاقة، وحيث تنظم المجتمع القوانين الوضعية ومواثيق حقوق الإنسان وليس نصوص الكتب المقدسة، وحيث الإنسان سيد مصيره ويغير ظروفه بالعقل الناقد المفتوح على كل الاحتمالات والتساؤلات، دون خوف من اتهامات الكفر وتضليل العقول وإفساد الأخلاق والتعدى على العادات والتقاليد الموروثة.
لسنا مجتمعات أدخلت الدين بشكل أصيل وحقيقى وجوهرى يتجدد مع تغير الحياة ويتناغم مع أهداف العدالة والحرية والإبداع والسعادة، المأساة عندنا أن الدين لا هو «منفصل» عن الحياة بالشكل الذى يحقق حرية الاعتقاد، ولا هو «متصل» بالحياة بالشكل الذى يجعله طاقة تنويرية تحرر الإنسان وتسعده، وتطلق طاقاته على الإبداع.
تتناول المسلسلات الدينية بلغة صعبة رجالًا بذقون طويلة، وعمامات وملامح متجهمة يطاردون «الكفار» فى حروب دموية، هذا اغتراب مفزع عن المعاناة اليومية للملايين، فى كل مكان يتكلم خطيب المسجد عبر ميكرفونات شرسة عن عذاب القبر ومفاسد النساء، أهذا يليق بالوطن فى الألفية الثالثة؟.
وهل يُعقل أن مصر بعد نضالها فى ثورة 1919 من أجل السفور وخلع الحجاب نجد أن غالبية فتياتها ونسائها محجبات، هذا غير المنتقبات باسم التدين والفضيلة؟، هناك شباب يعيش مع القمامة وطفح المجارى والذباب والناموس محروم من بديهيات الحياة الكريمة، وفى المسجد يجد منْ يأمرهم بالاستغفار عن ذنوبهم والزهد فى متاع الدنيا التى لا تعرف إلا عنوان الأغنياء.
أى «ذنوب» يقترفها شاب عاطل يعيش وسط القمامة والحشرات والأمراض؟، عما «تستغفر» فتاة لا تجد وظيفة وتعيش فى حجرة واحدة مع عشرة أفراد؟، ملايين تحت خط الفقر يسمعون فتاوى الاستعداد للموت وهم محرومون أصلًا من فرصة الحياة.. القضية ليست هل يوجد دين أو لا يوجد؟ القضية هى كيف يتحول الدين إلى دافع وجدانى يوحّد الناس ويذيب فى ود خلافاتهم الشخصية، من أجل يقظة جماعية ضد عدوهم الواحد المشترك «الظلم والفقر والقهر»، هذا الثالوث الذى يكسر عظام الناس ويذلهم ويجعلهم أمواتًا وهم أحياء.
ليست القضية هل الناس تؤدى الطقوس والعبادات إما طمعًا فى الثواب أو خوفًا من العقاب الإلهى أو رغبة فى الاستعراض أمام الناس. ولكن القضية هى كيف تمهد الطقوس والعبادات إلى خلق شخصية حرة التفكير قادرة على النقد المستنير للأزمات ومؤهلة للتمييز العقلانى بين الشكل والجوهر، بين الوسيلة والغاية، بين الثانوى والأساسى، بين التجارة بالدين للتربح والسلطة وبين استلهام الدين لحياة أفضل.
التحدى الأكبر هو كيف يتحول حب الله داخل كل مواطن ومواطنة إلى نقد ذاتى مستمر لسلوكياتنا اليومية، وإلى يقظة فكرية مبدعة ضد قهر الإنسان وتدمير كرامته.
هذا هو لب التجديد فى الفكر الدينى الذى نادى به الرئيس السيسى منذ عام 2014 وحتى الآن ما زلنا نتعثر فى خطواته.
وقد أعلنت دار الإفتاء أن رمضان هذا العام يشهد تغيرًا فى علاقة المواطن بالفتاوى الدينية، فقد أطلقت ما يسمى الفتوى «on Line» من خلال كل وسائل التواصل الاجتماعى، لتقديم الفتوى التى يحتاجها المواطن المصرى المسلم والمواطنة المصرية المسلمة، لا أعرف هل توفير الفتوى الإلكترونية الحديثة له علاقة بتجديد الفكر الدينى المطلوب؟، هل يؤدى هذا إلى تحديث جوهر الخطاب الدينى أم مجرد «تحديث» للوسائل فقط دون مساس بموطن الداء؟.
إن وزارة الأوقاف فعلت شيئًا إيجابيًا مع بداية رمضان، وهو قرارات تنظيم فوضى الميكرفونات فى المساجد والجوامع، هذا مثال لمحاولات تجديد فعلية، حيث وصل استعراض التدين الشكلى المظهرى بالميكرفونات إلى درجة بشعة قبيحة معيبة.
تجديد الفكر الدينى والخطاب الدينى مهمة كل المؤسسات وجميع المسئولين فى هذا البلد الذى نال منه التعصب والتطرف والمظهرية الدينية إلى أبعد حد، وأخص بالذكر الإعلام بكل وسائله ومقررات التعليم وقانون الأحوال الشخصية الذى بات ضروريًا أن يصبح «مدنيًا» و«موحدًا»، لأن الأسرة المصرية ليست بخير وأمان واستقرار فى ظل قانون غير مدنى يعتبر الزوجة والأطفال ملكية خاصة مطلقة للزوج.
من بستان قصائدى
منذ أزمنة بعيدة.. ملايين الناس يصومون
ولا يفطرون.. إلا على المزيد من الجوع
والمزيد من العطش.. والمزيد من الخضوع