رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ولى ومريد «6»

عبدالسلام بن مشيش.. الكنز المخفى


ليتنى أعود إلى شهر رمضان عام ١٩٧٨، ولكن الزمن لا يعود بنا إلى الوراء إلا فى ذكرياتنا، وقد احتفظت الذاكرة من تلكمُ الأيام بدقائق ما زالت محفورة فى وجدانى، أما ما عداها فى هذا اليوم الفريد فقد تبخر واندثر، كانت ثُلة من كبار عائلتى متوجهة إلى إحدى العارفات بالله فى ساحتها بالجمالية بالقرب من مسجد الحسين، حيث كان أحد الكبار من أقاربى أحد أتباعها، فصحبهم أبى وأخذنى معه، لم أكن سمعت عن هذه السيدة من قبل، ولكن عندما طرق اسمها سمعى ترك مكانه نقطة نور، «الحاجة زكية عبدالمطلب بدوى» سليلة آل البيت، ومن العلامات المضيئة فى الطريقة الشاذلية، فقد كانوا يعتبرونها ابنة القطب الصوفى أبوالحسن الشاذلى فى الطريقة.
حين رأيتها وجدّتها على مشارف الثمانين من عمرها، تجلس فى حجرتها الخاصة على سرير مرتفع وكان وجهها له وضاءة كأنه كالقمر المنير، تمثلتها جدتى الطيبة، وحينما جلست فى أحد أركان الحجرة أخذت أجيل النظر فى أرجاء المكان البسيط فى الوقت الذى أخذ الكبار يُحدثون الحاجة «زكية» ويطلبون منها الدعاء، وانشغل ذهنى بالقطب الصوفى أبوالحسن الشاذلى الذى كنت قد قرأت عنه من قبل، وفى التفاتة منى وجدت على منضدة صغيرة بجوارى كتيبًا صغيرًا عن الشاذلى وكراماته، فأمسكته وأخذت أتصفحه ريثما ينتهون من الكلام مع «الحاجة» وانقضت الجلسة، وقبل أن نغادر حجرتها وجهت الحاجة الكلام لى قائلة: «يا بُنى، لن تعرف سيدى أبوالحسن الشاذلى إلا إذا عرفت الكنز»، كان وقع عبارتها على أذنى قويًا فسألتها: ومن الكنز؟ فإذا بها تقول: أحسنت، فتعجبت من إجابتها، واعتبرتها لم تُجب، إنما قالت: أحسنت، فما وجه الحُسن فى سؤالى!، وعندما بدت الحيرة على وجهى ابتسمت وقالت: لو قلتَ: وما الكنز لقلتُ لك أخطأت، ولكنك قلت: ومن الكنز، ثم استرسلت: وأنت طبعًا ممتاز فى العربى وتعرف أن «ما» تُقال لغير العاقل، ومَنْ تقال للعاقل، ثم استرسلت «الحاجة»: والكنز الذى أقصده هو النور الذى أرشد سيدى أبوالحسن الشاذلى للحقيقة، ابحث عنه وستعرفه.
وحين خرجنا من الحجرة جاء زوج ابنة الحاجة زكية إلى أبى عليهما رحمة الله، وطلب منه العودة للحاجة، لأنها تريده فى أمر ما، وقد كان، وخرج أبى فى المرة الثانية من حجرة الحاجة وفى يده كتيب صغير، تصفحته فى البيت فوجدت عنوانه «الصلاة المشيشية» جرت عيناى بين سطوره سريعًا، ولكننى لم أتدبر معانيه، ومرت الأعوام وكنت كلما نظرت إلى كتيب «الصلاة المشيشية»، تذكرت الحاجة زكية وكنز الشاذلى، ولكن لم يرد فى خاطرى أن أجهد نفسى للبحث عن هذا الكنز، إلى أن وجدت فى كتب أبى القديمة مجموعة كتب عن الصوفية مثل «تعطير الأنفاس فى ذكر مناقب سيدى أبى الحسن الشاذلى وسيدى أبى العباس»، و«لطائف المنن لابن عطاء الله السكندرى» و«القطب الشهيد» للشيخ عبدالحليم محمود، ومن هذه الكتب عرفتُ من هو الكنز.
جاء من أخبار أبى الحسن الشاذلى، أنه من المغرب العربى من بلاد غمارة فى شمال المغرب، وغمارة هذه قبيلة من الأمازيغ، وكان قد حصَّل قدرًا من العلم الدينى وتعلق فؤاده بالله وملأ حبه شغاف قلبه، واستقر منذ صباه على الاستقامة والتقوى، وما إن وصل إلى السادسة والعشرين من عمره، حتى سافر إلى مكة قاصدًا الحج، ثم أخذ يحضر دروس العلماء فى المسجد الحرام، ثم فى المسجد النبوى، وهو يسأل الناس عن قطب هذا الزمان فلا يجيبه أحد، وكانت الفكرة التى يعيش عليها المتصوفة هى أن لكل زمان قطبًا تتجمع عنده علوم الحكمة والأسرار الإلهية التى يكون قد تلقاها من الله إلهامًا، وهذا هو العلم اللدنى، ولكن قلب الشاذلى لم يقع على ذلك القطب، فما إن يسمع بعض الدروس من أحد العلماء حتى ينصرف عنه، وعندما يئس من العثور على القطب فى مكة ذهب إلى العراق لعله يجد بغيته، وهناك فى العراق تشققت قدماه من كثرة السعى بين المساجد، والسفر من مدينة إلى مدينة، ولكنه لم يجد القطب، وكم من الأيام قضاها فى مجالس الصوفيين وحلقات الذكر يبحث عن القطب المنتظر ولا يجده، ومن عجب أن زمانه كان يعيش فيه القطب الأكبر محيى الدين بن عربى صاحب الفتوحات المكية، ولكن ابن عربى لم يكن يستقر به مقام، من الأندلس إلى المغرب إلى مكة إلى مصر إلى الكوفة إلى حلب.
كان التعب قد وصل مداه بأبى الحسن الشاذلى، إلى أن التقى الشيخ «أبوالفتح الواسطى» خليفة قطب الأقطاب أحمد الرفاعى، فسأله الواسطى عن الذى يبحث عنه، وعندما عرف مبتغاه قال له: أتبحث عن قطب هذا الزمان وهو فى بلدك! الكنز فى بلدك يا ولدى، تعجب الشاذلى وقال له: فى بلدى! أين؟ ومن هو؟ قال الواسطى: هو الكنز المخفى، ستجده فى جبل العَلَمْ، وما اسمه يا واسطى؟ ستعرفه عندما تراه: هكذا أجاب الواسطى، وإلى أين أنت ذاهب يا واسطى؟ هكذا سأله الشاذلى: ذاهب إلى الإسكندرية وسيكون ترابها غطاءً لجسدى، وكأنه كان يضع نبوءة موته فى الإسكندرية ودفنه تحت ترابها.
وعاد الشاذلى إلى المغرب إلى حيث قبيلة غمارة فقيل له إن هناك أحد الزاهدين يسكن الجبل ويتعبد لله هناك، فسأل عن حال هذا الزاهد فقالوا له إنه كان يعمل فى فلاحة الأرض، ومنها كان يتكسب رزقه، وأنه تزوج وأنجب وعندما شب أولاده عن الطوق، اعتكف فى الجبل من أجل الخلوة والعبادة والزهد، وصعد الشاذلى للجبل وعندما جنَّ عليه الليل آوى إلى مغارة استراح فيها ثم أخذ يقيم الليل، وفى هدأة هذا الليل المقمر سمع صوتًا يتردد صداه بين جنبات المغارة يناجى ربه قائلًا: «اللهم إن أقوامًا سألوك إقبال الخلق عليهم وتسخيرهم لهم، فسخّرت لهم خلقك فرضوا منك بذلك اللهم إنى أسألك إعراضهم عنى، واعوجاجهم علىّ حتى لا يكون لى ملجأ إلا إليك» ما هذا؟! هذا رجل يطلب من الله أن يجعل الناس ينصرفون عنه، أو كل الناس يطلبون من الله إقبال الناس عليهم وهذا يطلب من الله أن يُبعد عنه الناس، هذا دعاء لم يسمع بمثله الشاذلى من قبل، هذا دعاء العارفين الناسكين الزاهدين.
وعند بزوغ الفجر وجد الشاذلى هذا العابد، يخرج من مغارة بجوار المغارة التى كان قد آوى إليها، وحينما نظر إليه غشى النور قلبه حتى كاد أن يطير من فرط السعادة التى اجتاحته، فقدَّم الشاذلى نفسه له، وقد أدرك أن هذا الزاهد هو القطب الذى يبحث عنه، هذا هو الولى الزاهد عبدالسلام بن مشيش فقال له الشاذلى: سمعتك يا سيدى تقول كذا وكذا، فقال ابن مشيش: «أيهما تُحب، أن تقول اللهم كن لى، أم تقول اللهم سخر قلوب الناس لى؟ يا بُنى إذا كان الله لك أيفوتك شىء؟» ثم نظر إليه وقال له: اذهب واغتسل، فذهب واغتسل، وعندما عاد طلب منه ابن مشيش شيئًا أكثر غرابة سنعرفه فى الحلقة القادمة.