رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ربك رب قلوب «5»

أيمن الحكيم يكتب: أم سامي.. السيدة التي تزوجها الشعراوي وهو في الابتدائية خشية من «فتنة أم فتحية»

جريدة الدستور

كان عمرى شهورًا فى عملى بالصحافة، وكان أستاذى الجليل «رجاء النقاش» قد اختارنى للعمل معه فى جريدة سعودية يدير مكتبها بالقاهرة، واستدعانى رجاء النقاش ذات صباح ليخبرنى بإعلان حالة طوارئ عاجلة لأنه تلقى خبرًا بوفاة الشيخ الشعراوى، وقضينا ساعات فى تجهيز ملف يليق بالداعية الشهير، وقبل أن نرسله بالفاكس إلى مقر الجريدة بالدمام، طلب «النقاش» أن أضع اسمى على الملف، وفى صباح اليوم التالى وجدت ساعى المكتب فى استقبالى وعلى وجهه حالة من الذعر: «الديوان الملكى فى السعودية اتصل وسأل عنك والدنيا مقلوبة عليك».. ولم يكن الساعى يبالغ، فالدنيا كانت مقلوبة فعلًا، إذ نشرت الجريدة خبر رحيل الشيخ الشعراوى فى صدر طبعتها الأولى، ثم اتضح أن الشيخ حى يرزق، والجميع يبحث عن كاتب الخبر.
عشنا فى ورطة بسبب هذا الصديق الصحفى الذى أبلغ رجاء النقاش بخبر رحيل الشيخ الشعراوى.. وتجاوزًا للتفاصيل، فقد كان ما يشغل «النقاش» هو أن نتصل بالشعراوى ونطيّب خاطره ونعتذر له عما سببناه له من ألم وضيق، ولأننى «المتهم البرىء»، فقد وقع الاختيار علىّ لأقوم بالاتصال بالشيخ، وما إن سمع اسمى على الهاتف حتى قال فى غضب مكتوم: «إنت يا ابنى مستعجل علىّ ليه؟.. على العموم رغم زعلى بس مبسوط من بروفة موتى لأنى عرفت قدرى فى قلوب الناس».
المدهش أن الشعراوى مات فعلًا بعد تلك الواقعة بشهور «١٧ يوليو ١٩٩٨».
كان الشيخ الشعراوى حالة متفردة وغير مسبوقة ولا ملحوقة من الدعاة، فقد حقق الرجل من الشهرة والصيت والنفوذ والتأثير ما ينافس به ملوكًا وحكامًا، ولا نقول نجوم السينما والكرة.
ومثلما كان متفردًا كداعية، كان كذلك كزوج، وللشيخ قصة فى الزواج غريبة التفاصيل، حيث تزوج وهو تلميذ فى المدرسة الابتدائية.
وكان محمد متولى الشعراوى قد وُلد فى قريته الصغيرة «دقادوس»، المتاخمة لمركز ميت غمر بمحافظة الدقهلية، ونذره والده الفلاح الطيب لخدمة دين الله بعد حلم ظهر فيه الغلام وكأنه «كتكوت» يقف فوق المنبر ليخطب فى الناس، فأصر على تحفيظه القرآن وإلحاقه بالأزهر، ووجد «محمد» نفسه رغمًا عنه يسافر وهو صبى ليدخل المعهد الدينى فى الزقازيق، أقرب المعاهد الأزهرية إلى قريته، ليبدأ رحلته الطويلة الشاقة مع العلم، ليبلغ فيه شأنًا عظيمًا ومقامًا مهيبًا، وهو الذى كان فى صباه يتمنى أن يكون فلاحًا كوالده، يزرع الأرض، ولا يُحكم عليه بالغربة عن «دقادوس».
حصل الشعراوى على الشهادة الابتدائية الأزهرية فى العام ١٩٣٢، ولكنه فى سنته الرابعة من الدراسة الابتدائية كان يحمل شهادة «زوجية».
كان الشيخ الصغير قد استأجر غرفة مفروشة مع تلميذ بلدياته اسمه «حسنى إمام» فى بيت «الست أم فتحية»، بالزقازيق، مجاور للمعهد الأزهرى، ويحكى الشيخ لكاتب سيرته، سعيد أبوالعينين، تفاصيل ما حدث بأسلوبه الساحر الساخر: «فى يوم جاءت لنا أم فتحية، وقالت لنا إن ابنتها (صفاء) عندها (واجب فى الحساب) لكنها (مش عارفة تحله)، وطلبت منا- أنا وزميلى- أن نساعدها فى حل الواجب لأنها ضعيفة فى الحساب.. وجاءت صفاء وجلست معنا فى غرفتنا وأخذنا فى مساعدتها وعمل الواجب.. وفوجئت بوالدى يدخل علينا الغرفة ونحن نقوم بعمل الواجب لصفاء، وتطلع إلينا نحن الثلاثة بغضب، ثم سألنى: مين البنت اللى قاعدة دى؟، قلت: دى صفاء! قال: والست صفاء دى تطلع مين؟.. قلت: بنت أم فتحية.. قال: وأم فتحية دى تطلع مين؟.. قلت: صاحبة البيت.. قال: طيب.. وتركنا وانصرف، وعاد إلى قريتنا دقادوس، وكان قد جاء إلى الزقازيق لشراء (جمل)، ولما اشترى الجمل فكر فى أن يمر علينا فى السكن ليسألنا إن كنا فى حاجة إلى شىء، لكنه فوجئ بوجود صفاء معنا».
ويكمل: «فى نهاية الأسبوع سافرت كالعادة إلى القرية.. وبمجرد أن دخلت البيت نادى والدى على أمى، وطلب خالتى وخالى عبده، وقال لهم فى حضورى: الولد ده لازم يتجوز.. وبسرعة، فقلت فى دهشة: أتجوز؟ وليه يابا؟ ما بلاش الحكاية دى دلوقتى.. وأيدتنى أمى: ما دام الولد موش عايز، ليه بقى تفتح عينيه على الموضوع ده.. إنت ناسى إنه عايش فى غربة ولسه صغير؟.. فرد عليها: ما هو علشان كده أنا عايزه يتجوز.. فهمتى بقى ليه؟.. ثم وجّه كلامه لى: قدامك أسبوع.. تشوف بنات البلد وتختار واحدة وتقول لى بنت مين؟.. فقلت له: ما دام أنا ح أتجوز غصب عنى يبقى جوزونى إنتم اللى على كيفكم.. واختار لى والدى بنت خاله.. وكان اختيارًا طيبًا ولم تتعبنى فى حياتى.. وهكذا تزوجت وأنا فى ابتدائى».
دفع الشيخ الشعراوى مهرًا قدره ٣٠ جنيهًا، وكتب على نفسه مؤخرًا قدره ١٥ جنيهًا، وهى أرقام فلكية بحسابات زمانه، فلقد كانت العروس بنت أصول، وفوق ذلك كانت وحيدة أبويها.
وأنجبت له بنت الأصول ٥ أبناء، ٣ أولاد: سامى، وعبدالرحيم «توفى ٢٠١٢»، أحمد.. وبنتين: فاطمة «توفيت ٢٠١٨»، وصالحة.. وأصبح لقبها «أم سامى».
وتحملت «أم سامى» ظروف زوجها الصعبة فى أول سنوات الزواج، فبعد تخرج الشيخ فى كلية اللغة العربية بالأزهر الشريف، عام ١٩٤١، عُين مدرسًا بمعهد طنطا الأزهرى بمرتب ١٠ جنيهات، كان يدفع منها جنيهين فى إيجار الشقة، ولم تكن الجنيهات الثمانية المتبقية تكفى لسد احتياجات الأسرة التى بدأت تتزايد فى عددها ونفقاتها، ولم يكن أمام الشيخ سوى الاستدانة من صديقه صاحب المطعم «محمد حسنين»، وأخذت الديون تتراكم عليه حتى وصلت إلى ٣٥٥ جنيهًا.
يحكى الشيخ أنه فى ذات ليلة جافاه النوم من فيض الهموم، وراح يفكر فى حل لأزماته المادية، ولاحظت عليه والدته «الهم»، ولم تكن فى حاجة لأن تسمع منه إجابته عن المعيشة الصعبة ومصاريف العيال والديون التى تتراكم عليه، فهى تعرف كل شىء، وبحنان الأم طبطبت عليه وقالت: «قوم نام وما تشيلش هم وأنا ح أدعيلك»، وجاءته الأم فى الصباح توقظه وهى مستبشرة: «قوم يا شيخ محمد.. أنا شفت لك فى المنام رؤية حلوة».. «خير يا أمة؟».. «شفتك وإنت شايل (قفة) مليانة فلوس».
المدهش أن الرؤية تحققت بحذافيرها بعد سنوات قليلة، عندما سافر الشيخ فى إعارة للتدريس فى كلية الشريعة بمكة المكرمة، عام ١٩٥٠، واصطحب والدته معه لتؤدى العمرة، وفوجئ عندما ذهب ليقبض راتبه أول مرة بأنهم يصرفون لكل أستاذ مرتب ٣ أشهر دفعة واحدة، وأن الراتب ليس عملة ورقية بل بالنقد الحجرى «أى بالفضة والذهب»، وأعطوه «شيكارة» فلوس عجز عن حملها، فاستعان بـ«شيال» أفرغ الحمولة فى «قفة»، ولما دخل على أمه قال لها بفرح: فاكره يا أمة لما حلمتى إنى داخل عليكى بقفة فلوس؟.. آدى حلمك أهه تحقق.. وآدى القفة.. وآدى الفلوس!.
ترك الشيخ لزوجته- أو الحكومة كما كان يسميها- مهمة إدارة شئون البيت، خاصة بعد أن عاد للاستقرار فى القاهرة واشترى شقته الشهيرة الملاصقة لمسجد سيدنا الإمام الحسين، وبمجرد عودته للبيت تتولى رعايته الكاملة، فتخلع عنه هدومه وتجهز له طعامه وتعطيه تقريرًا مفصلًا عن الأولاد وتصرفاتهم، فإذا غضب منهم فإنه يمتنع عن تناول الطعام معهم، حتى يعتذروا له ويقبّلوا يديه ورجليه!.
كانت «أم سامى» تدرك أنها متزوجة من رجل استثنائى له مكانته وشعبيته ومريديه، فكانت مستعدة دائمًا لاستقبال ضيوفه ومحبيه، بمن فى ذلك أصدقاؤه من «مجاذيب الحسين».. حكى الشيخ تلك الواقعة: «كان يأتينى ناس من المجاذيب، وكان عندى ولد من أولادى نفسه (وحشة) و(يقرف) منهم، وفى مرة وقف على الباب ومنع واحدًا منهم من الدخول، وعرفت بذلك من أمه فغضبت.. وبعد يومين، ربنا رزقنا بواحد من المجاذيب.. رحبت به وناديت على (أم سامى) وقلت لها: جهزى غيارين من بتوعى فى الحمام.. وأدخلته الحمام.. وعندما شاهدنى الولد (اللى نفسه وحشة وبيقرف منهم) وأنا أفعل ذلك مع المجذوب.. انتظره حتى خرج من الحمام وأخذ يقبّل يديه ومن يومها لا يرى مجذوبًا إلا ويقبّل يديه».
وليس سرًا أن «أم سامى» لم تكن راضية عن تولى الشيخ الشعراوى منصب وزير الأوقاف فى حكومة ممدوح سالم، فى زمن السادات «١٩٧٦»، فقد كانت أكثر من يعرف أن الشيخ ينفق على الوزارة من جيبه، وأن مرتبه كوزير «٢٧٠ جنيهًا» لا يكفى نفقات البيت، مما اضطر الشيخ للسحب من «تحويشة» ٢٦ سنة قضاها فى الغربة، وعندما خرج من الوزارة كان رصيده فى البنك ٣٢٠ جنيهًا لا غير.
انتقلت «أم سامى» قبل الشيخ بسنوات قليلة، وتولى أبناؤه خدمته من بعدها، وظلت هى المرأة الوحيدة فى حياة الشعراوى.. فقد تزوجها وهو تلميذ فى الابتدائى، وعاشت معه رحلة صعوده من مدرس فى طنطا حتى صار إمام الدعاة.