رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لحظة فى حُضن الحياة

جريدة الدستور



انفتحت عيناهُ على فراشةٍ خَرجت من يومٍ أو اثنين مِن شَرنقتها، وربما غدًا تنتهى حياتها. خموله والبرد الشديد المُصاب به يَرجع سببه إلى بقائه أمس فى منتصف الصالة عاريًا من كُلّ شىء، متحديًا بهذا حرارة أغسطس اللزجة، كان قد فتح مَروحة السقف توزع الهواء على عِظامه التى أصبحت هشة.
ينتظرها منذ ساعتين حتى تلعب حركتها على ركعة الشطرنج الزجاجى، آخر دور هزمته، الآن هو متقدم عليها بفارق نقطة واحدة.
ليلى، لن تطير الذُرة المقلية التى تعدينها، سوف أشترى لكِ من على الكورنيش، دورك حان منذ مدة!
ما لكَ تنتظر بلهفة كى أغلبك ثانية؟
كان هذا زمان، الآن أنا المتقدم.
انظر لهذه الحركة، ضاع الفيل! يجب أن تعتنى بالملك وتوفر له الحماية، أُف حَر جدًا يا جابر.
لو أنك وفرت ثمن الأريكة لكنا اشترينا مكيف الهواء بدل المَروحة الخربة، لا نأخذ منها إلا الصرصرة.
كونى رحيمة بى وبعظامى، لن أحتمل الجلوس فى غرفة النوم، لذا اشتريت بالمال الأريكة!
تهانينا لك، انعم بها.
سوف تشكريننى فى الشتاء حين تجلسين بجوارى متدثرة بالبطانية ونحن نشاهد فيلم السهرة، أعتقد أنه سوف يكون عن حرب عصابات شرسة، ودم فى كل أنحاء الصالة.
أنت تفتقد للرومانسية..
زمان كُنتُ أشترى لكِ الورد
نعم، الآن تشترى لى البصل والثوم..
أُحبك يا ليلى
أنا أيضًا يا جابر، أخاف الموت قبلك!.
لا تقولى هذا، الحياة طويلة..
نعم، نحن الآن فى الستين، طويلة أو قصيرة سوف أستمتع.
الذُرة المقلية تُطرقع كأنها فُشار، دقائق قليلة وتبدأ السهرة.
سوف أحضرها، وعِدنى أن تُحضر لى فى الاستراحة من يديك قهوة.
تعلم، أنا أحب مَلمسهم جدًا، وَهذه الكرمشة، آه أنا أملك مثلها، منذ سنوات قليلة كنت أخاف من مصير يدىّ، الآن أحبها، ناعمة ورقيقة من الكف، الجلد متغضن بعض الشىء، طبقة عازلة لكن ترى تحتها بوضوح الزرقة، وتلك الحبيبات المتناثرة على طول الذراع، انظر.. أنها تنبت على بطنك العارية كأنها حديقة، وفى رقبتك النحيلة، رقبتى أنا ثمينة وممتلئة بها، أيضًا على الوجه. أنفك دقيق، وعيونك بُنية، عيونى لونهم زمردى، أعلم لا تفهم فى الألوان، ولا التفرقة بينهم، كل بنى جنسك هكذا.
ليلى رائحتك قوية أشعر بها فى كل مكان، روحك طاغية وأشياء المنزل وحاجياته تتشبع بها، كل ركن هنا يعرفك جيدًا كأنكِ أمه، كذلك قلبى يا ليلى، كان خائفًا أن يرفض والدك الزيجة، قد أصابك بعض الترهل كما أصابنى، لكنى أغوص فيهم وألعب كطفل صغير، نعم لم نرزق بهم، هكذا الدنيا لا تأخذ منها الكثير، أنتِ تكفينى.
تعال معى للمطبخ، أخاف الوحدة..
الرائحة مُغرية..
تذوق هذه الحبة.
أوه. الذًرة لذيذة
طعمها، ماذا يبدو؟
أغمض عينه، وراح يمضغ أكثر ويستلذ بالعصارة
كقبلة من شفتيكِ يا ليلى، هذا هو طعمها
أنت خبيث، تحب الأكل كثيرًا
وأنتِ فريدة
كنت أود أن اسميها هكذا، فريدة! ألاعبها وأضمها لصدرى، ألقمها من ثديى، أصبحا الآن مجرد ثمرتين مترهلتين.
تعلم يا جابر، حين أتخفف من ملابسى فى الغرفة وأقف أمام المرآة أتفحصهما، فى البداية كانت نظرة مُتيم، ثمرة ناضجة ممتلئة باللبن، لكنه حبيس الظلمة، ثم مع الوقت تبدلت النظرة إلى حزن وأحيانًا حسرة، أنا أحب كل قطعة من جسدى هذا، زمان والآن، إلَّا هذه التكورات التى لم يتَلَقَّمها يومًا فَم طفل.
انظر أنها منتصبة لأول مرَّة منذ فترة، ماذا فعلت بهذه اللمسة السحرية؟
أنتِ جميلة، أحسد نفسى عليكِ..
احتضنى بقوة، ضم ذراعك حول خصرى، لا تفلتنى مهما حَدث، مهما تفهوت بكلام، أو أطلقت عليك السباب، سوف أختبرك!
لا يا ليلى، لا تعضى!
لا تفلتنى يا جابر، استمر فى احتضانى.. أحبك يا ليلى، أنتِ طفلة مدللة، لا تبكى، أنا معكِ، لن أذهب، حضنك دافئ، قلبك يسعنى بكل ما أحمل من تناقضات، وساوس وأفكار غريبة، تتحملى حتى هذا المس الشيطانى الذى يدفعنى لارتكاب أشياء حمقاء أحيانًا، تركى العمل وأنا لم أبلغ الثلاثين، جلوسى بالساعات هنا فى هذه الصالة مع هذا الحر، أرسم وأرسم، وتنزلق الألوان على الأرضية، وتعلق بالستائر، وبالكنبة القديمة.
ضمنى بقوة أكثر، أحتاج لهذه اللحظة، لا أود أن تنتهى، عنفنى إذا وهنت عظامى وأرادت أن تنسحب، امسك بها كأنك ممسك بفرشاة فى ذروة الإلهام ولا تود التخلى عنها إلَّا بعد أن تكمل اللوحة.
هو قادم أشعر به، شكله جميل، كذبت السينما والروايات فى تصويره، احتضنى، عينك جميلة، سوف تبحث عنى وتستعجل الخطى لترانى شابة تجلس فى حديقة وتلَقَّم طفلًا يشبهك من ثديها.