رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كمائن جمع الحسنات


العُنْصُر، هو الأصل والحسب. ويوصف الشخص ذو الأصل الطيب بأنه كريم العنصر (He is of noble origin). ولأن المصرى كريم العُنصرين، كما كتب بيرم التونسى وغنّى سيد درويش، كان طبيعيًا وعاديًا أن نرى مصريين مثل هؤلاء الذين «كان الصليب على أيديهم، ونور ربنا مغطى ملامح وشّهم وهمّ بيقولوا: بلّوا ريقكم.. المغرب أذّن»، وما بين التنصيص وصف به زميلنا وصديقنا خالد حريب، شباب عزبة النخل «الفراودة» الذين «عزموا القطر»، وكرروا ما سبق أن فعله أبناء الشرقية العظام، وصار دليلًا على كرمهم لدى الأسوياء، ورآه آخرون نوعًا من السذاجة أو الطيبة الزائدة عن اللازم.
المترو المتجه للمرج وقف فى محطة عزبة النخل، وخلال دقيقة «دخل من كل باب شاب شايل صينية عليها كوبايات عصير وعلبة بلح.. 4 أبواب وأربعة شباب فراودة، وراهم شاب أصغر شوية معاه كيس فاضى يلم الفوارغ ونوى البلح». ولما نظر «خالد» على الرصيف وجد أن المشهد نفسه تكرر فى كل العربات: «حسبة بسيطة لو كل عربية خدمها خمسة شباب فى عشر عربيات، يبقى الهجوم الجميل ده من خمسين شاب مبتسمين». وتنتهى حكاية «خالد» أو شهادته بتلك العبارة التى وجدتنى أحفظها وأرددها، وأريدك أنت أيضًا، أن تقرأها مرّات ومرّات: «كان الصليب على أيديهم ونور ربنا مغطّى ملامح وشّهم، وهمّ بيقولوا: بلّوا ريقكم.. المغرب أذّن».
ما حدث فى المترو، يحدث فى كل طرق وشوارع مصر، خاصة الطرق السريعة. ولا نبالغ لو قلنا إن كمائن الشرطة، تكاد تختفى فى رمضان لتحل محلها كمائن لـ«جمع الحسنات» يقيمها بسطاء مصر العظماء. وشخصيًا، اعتدت أن أرى على طريق «مصر إسكندرية» الزراعى، مجموعات من الرجال، الشباب والأطفال، يقفون بطول الطريق، لا تفصل بين المجموعة والأخرى إلا نحو 500 متر. وبعضهم قد يصل كرمه إلى حد تكسير زجاج سيارتك. ومن طريق (أسوان القاهرة) الزراعى نقل لنا زميلنا ياسر أبوالنيل كيف تتسابق القرى الواقعة عليه منذ أول يوم فى رمضان لإعداد موائد الرحمن على الطريق السريع. وكيف يقوم أهالى تلك القرى بإغلاق الطريق عند اقتراب الأذان لإجبار المسافرين على التوقف والنزول لتناول طعام الإفطار بالإكراه، حتى لو تصادف وكانوا مسيحيين: إذا حاول بعض المارة الهروب من كمين الإفطار بحجة أو أخرى فسوف يصادفه كمين ثان وثالث بطول الطريق.
ما يفعله هؤلاء البسطاء، العظماء، طوال سنوات، لم تفعله الجمعيات والمؤسسات الأهلية فى مصر، التى تجاوز عددها ٤٧ ألف جمعية ومؤسسة، والتى تريد التحايل على عدم وجودها على الأرض، عجزًا أو كسلًا، فلجأت إلى القنوات التليفزيونية، وغيرها من وسائل الإعلام، وتنافست، بحملاتها الإعلانية، للحصول على أموال زكاة المصريين فى هذا الشهر الكريم، التى تُقدر بـ٧ مليارات جنيه تخرج فى صورة زكاة، صدقات، وتبرعات. مع أن وجود تلك الجمعيات والمؤسسات على الأرض أو فى الشارع، كان سيساعدها ليس فقط فى جمع التبرعات لنفسها، وإنما فى توعية المواطنين بدورها وبدور غيرها من المؤسسات والجهات التى تستحق الدعم، التبرع، الصدقة، أو الزكاة. ولن نكرر ما قيل كثيرًا عن الصورة بالغة السوء التى ترسخها تلك الإعلانات، كما لن نتوقف عند اللعب على الوتر الدينى وخطورته، فى غالبيتها.
المصريون، كِرام العُنصرين، أو بسطاء مصر العظماء، يدركون بديهية أن أجر الصدقة فى رمضان، لا يزيد على أجرها فى غيره، ويفعلون، سرًا، طوال شهور السنة، ما يفعلونه خلال شهر رمضان وأكثر. والأكثر من ذلك، أن غالبيتهم متدينون فعًلا، لا قولًا، موضوعًا لا شكلًا، وحدث مثلًا أن عددًا من الشباب كانوا يقفون فى أحد تلك الكمائن، كمائن جمع الحسنات، ولمًا حاول مواطن الإفلات منهم، صرخ أحدهم وهو يقول للآخر: «حلَّق عليه.. حلَّق عليه.. حايضيّع علينا الثواب ابن دين الـ....»!.