رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ولى ومريد «5»

الفضيل بن عياض.. اللص الولى


قررتُ اليوم أن أفتح لكم خزينة أسرارى لأقول لكم شيئًا من أسرارى الخاصة، ذات يوم قال لى واحدٌ من الناس: «أنا وأنت وكل المخلوقات نغيب ونحضر، نراها وترانا، والله سبحانه وتعالى خالق المخلوقات هو الذى خلق عالم الحضور وعالم الغيب، والغيب يا فتى هو كل ما غاب عنك، ولكن يجب أن يعلم قلبك أن خالق الغيب لا يغيب، وما الغيب إلا مخلوق من مخلوقاته، وقوانين المخلوقات لا تسرى على الخالق، ألا تعلم أنه (هو الظاهر والباطن)، فهل غاب حتى تبحث عنه، الله ظاهر بلا خفاء، ولكن عقولنا محجوبة عن تصوره لأنه الباطن الذى لا ندرك كُنْهَهُ، فلا يعرف كُنه الله إلا الله».
سألته: من أين تعلمت هذا الكلام؟
فقال: من الفضيل، عدتُ أسأله: ومن الفضيل؟
نظر إلىّ ودموعه تنهمر ثم قال بصوت حشرجه البكاء: بن عياض، فهو الذى علمنى أننا إذا عالجنا قلوبنا وأفئدتنا رأينا الله الذى لا يغيب عنا أبدًا، وحينما نراه سنعرفه، وإذا عرفناه أحببناه، فهو لم يغب عنا لنجهله.
وحينما سألته: هل أنت من أتباع طريقته؟ قال: أنا أتبع الطريق، ولا أتبع الطريقة، وطريق الفضيل هو الزهد فى الدنيا وحب الله، وأنصحك بأن تأخذ من الناس قلوبهم لا عقولهم.
كنتُ قد قرأت عن الفضيل بن عياض من قبل، وجذبتنى قصته، فهو واحد من كبار العارفين بالله، وأذكر أن أول مرة قرأت عنه فيها كانت من خلال كتاب للدكتور عبدالحليم محمود، شيخ الأزهر الأسبق، عليه رحمة الله، وكان عنوان الكتاب هو «الفضيل بن عياض صوفى من الجيل الأول» للصوفيين، وقد جذبتنى للفضيل قصة، وجذبتنى للقصة لمحة هى بحياته كلها.
وقبل أن ندخل إلى قصته أعتقد أنكم ستسألوننى عن ذلك الرجل الذى قلتُ لكم عنه إنه «واحد من الناس»، والذى حدثنى عن أن عقولنا محجوبة عن تصور الله، وأنه لا يعرف كُنه الله إلا الله؟، يقينًا لن أستطيع الآن أن أروى لكم سيرة ذلك الرجل الغريب، الذى أعتبره من أولياء الله الصالحين، لكن أحدنا لو رآه يسير فى الطريق لأشفق عليه، فقد كان طاعنًا فى السن، يرتدى جلبابًا أبيض قديمًا ولكنه نظيف، يتكئ على عصا تغير لونها بفعل الزمن، وقد تزدريه أعيننا وسنوقن أنه من البسطاء الأميين الذين أجهدتهم الدنيا، ولكنكم لا تعلمون أن كبار الباحثين فى السوربون، وهارفارد، وأكسفورد، ومعهد الاستشراق الروسى، بحثوا عنه وسعوا إليه ولكنه كان يهرب منهم جميعًا، فهذا الرجل كان يمثل الصورة الأولى للصوفية فى عصرها الأول، هو مثل سفيان بن عيينة وبشر الحافى، وإبراهيم بن أدهم فى الزهد، حتى إننى لم أرَ رجلًا يشتد على نفسه فى الصيام وقيام الليل مثله.
ما علينا، فنحن الآن فى معرض الحديث عن الفضيل بن عياض، ولا يجوز لنا أن نتحدث عن غيره ونحن فى حضرته، والحق إننى عندما قرأت سيرة الفضيل فى كتاب الدكتور عبدالحليم محمود، أخذت أبحث عن هذا الرجل فى كُتب أعلام التصوف، فوجدت أن هناك معركة قامت بشأنه، فكبار المتخصصين فى التاريخ الإسلامى يصنفونه باعتباره أحد أكبر أعلام الصوفيين، ولكن السلفيين يصرون على أنه لا علاقة له بالصوفية، وأنه أحد كبار أئمة أهل السنة، هؤلاء يقولون إنه من أوليائنا نحن أهل التصوف، وأولئك يقولون إنه من أئمتنا نحن أهل السلف، وإلى الآن لا تزال هذه المعركة دائرة، أما نحن فلا يعنينا إلا أن هذا الرجل كان من كبار الزاهدين العابدين، وله قصة أصبحت علامة من علامات الرجاء، هو عابد الحرمين، هو الذى قال: «لو أن هذه الدنيا بما فيها عُرِضت علىّ دون أن يحاسبنى الله عليها لاستقذرتها واعتبرتها جيفة»، وهو الذى نظر إلى حال المسلمين فى القرن الثانى الهجرى فقال: «أُنزل القرآن ليُعْمَلَ به، فاتخذ الناس تلاوته عملًا»، نعم يا أبناء القرن الخامس عشر هجريًا، قال الفضيل ذلك منذ ما يقرب من ألف وثلاثمائة عام.
والآن فلندخل إلى قصته، فقد ولد الفضيل فى بدايات القرن الثانى الهجرى لأبٍ عربى من قبيلة تميم، ولكنه ولد بخراسان، وكان أبوه من العباد الصالحين، عُرف بالتقوى، وكان كل مبتغاه أن ينشأ ابنه على الصلاح والتقوى ومحبة الله، فربّاه على ذلك، ولكن فتوة الشباب جرفت الفضيل، فابتعد كثيرًا عن الله ووصل به الأمر إلى أن أصبح قاطع طريق، يا الله، الفضيل لص! وليس أى لص، بل لص يخاف الناس منه ومن قوته وحيلته فى استلاب ثروات الناس، وقطع الطريق على القوافل هو وثلة من رجاله، وبلغة زمنه كان الفضيل من أعتى الشُطار.
نحن الآن أمام رجل طمر قلبه فى الطين، والقلوب التى فى الطين لا يمكن أن ترى النور، أو تدرك الحقيقة، أو تعرف الحق، وسبحان الله ظل الفضيل على هذا الحال زمنًا إلى أن أحب فتاة رأى من جمالها ما سلب عقله وحرك فؤاده، فتقدم إليها ليتزوجها فلم تقبل لسوء سيرته، أتتزوج الحرة العفيفة التقيّة من رجل لص يقطع الطريق على الناس؟! الآن أطلب منكم أن تكونوا معى خطوة خطوة ونحن نشخّص ما حدث للفضيل، دخل الحبُ قلبه أولًا، ثم رفضته مَنْ يحبها، الحب كان هو المبتدأ هنا، تحركت أوتار قلبه بالمشاعر، ذلك القلب الصلد الذى كان لا يأبه بصرخات الناس وتوسلاتهم وهو يسرق أموالهم عنوة!، أما الخبر فكان عندما تسوّر حائط بيت هذه الفتاة حتى يأخذها لنفسه غصبًا وقهرًا، وهنا يسمع الفضيل صوت أحدهم من الدار يقرأ القرآن للذكر، أو يقرأ القرآن فى صلاته، وتقول بعض الأخبار إن مَن كان يصلى ويتلو القرآن هى الفتاة التى شغف بها الفضيل، وجاءت الآيات تتهادى إلى سمع الفضيل، فكمن فى أحد الجوانب حتى لا يراه أحد، وكان أول ما صافح أذنه صوت القارئ أو صوت الفتاة وهى أو هو يقرأ قول الله تعالى «أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ»، أخذت الآية تتردد فى أذنه ثم طرقت باب قلبه، «ألم يأن»؟ «ألم يأن»؟، ثم عادت الآية تضغط على حبات قلبه «ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله»، وها هو ذكر الله يا فضيل يطرق باب قلبك، ويخالط حشاشات شعورك فماذا أنت فاعل؟!.
الآن سنسأل أنفسنا: هل من رُبِّى على الصلاح عاد إليه ولو شط به الطريق إلى مفازات بعيدة؟ هل صلاح الآباء يتوارثه الأبناء؟، فالله قال فى سورة الكهف «وكان أبوهما صالحًا»، ولكن أيضًا ابن نوح عليه السلام لم يكن من الصالحين، فهل سيرث الفضيل بن عياض صلاح أبيه..أم سيكون كابن نوح عليه السلام؟ نعم القلب مستودع المشاعر، ولكن القلب قُلّب.
فماذا فعل الفضيل بعد أن سمع قول الله تعالى «ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق»؟ هذا ما سنعرف خبره فى الحلقة المقبلة.