رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إسلاميات كاتب مسيحى «5»

محمد الباز يكتب: هل أنصف نظمي لوقا النبي محمد كراهية في المسيح؟

جريدة الدستور

- نظمى لوقا تجاوز حدود الأديان حين كتب «محمد الرسالة والرسول» لكن المتعصبين لم يفهموا
- القمص سرجيوس زعم أن نظمى نزل من بطن أمه مسلمًا وليس مسيحيًا ومن ثم كان منحازًا للنبى محمد
- المفكر الكبير حاول أن يُقرب الأديان من بعضها لأن أصلها واحد لكن المتطرفين حاولوا إفساد تحركه

يحلو لبعض من يعارضون توجه نظمى لوقا فى إنصافه النبى محمد، صلى الله عليه وسلم، وبعض رجالات الإسلام، أنه ما فعل ذلك إلا لأنه كان يكره المسيحية والمسيحيين، ويبنون رأيهم هذا على موقف كشف نظمى نفسه عن تفاصيله فى تقديمه كتابه «محمد الرسالة والرسول».
يروى نظمى أن شقيقه الأصغر أصيب فى مهده بمرض طويل، أكل علاجه الأخضر واليابس لدى العائلة، ثم مات فركب الأسرة دَين كبير، وسافرت أمه- وهى حامل فى شهرها الثامن- إلى القاهرة، تطلب من أمها حفيدة القسوس جزءًا من حقها القانونى فى وقف جدتها، وكانت الأم وحيدة، وظلت عند أمها ثلاثة أيام أحس فيها الصغير بالوحشة، ثم عادت الأم من سفرها خاوية الوفاض دامعة العينين، وقد رفضت أمها الثرية أن تمنحها حقها، وهى بين الثكل والحمل والحاجة مهيضة الجناح مضعضعة النفس.
قررت الأسرة أن تضغط المصروفات كلها لمواجهة الأزمة، فانتقلت إلى بيت أرخص واستغنت عن الكهرباء والخادم، وأقبلت الأم الحبلى تعمل بيديها كل شىء حتى الخبز، فحز فى نفس نظمى الصغير ذلك، وهو الذى- وبتعبيره- يكاد يعبد أمه من دون الله.
تقرر فيما تقرر الاستغناء عن دروس الشيخ البخارى الذى كان يتقاضى عليها أجرًا زهيدًا، لكنه كان فى النهاية يمثل جزءًا من ميزانية الأسرة، وعرف الشيخ طرفًا من الأزمة فى بيت فتاه.
ذهب الوالد إلى الشيخ يخبره بأن الفتى الصغير سينقطع عن الدرس، فلم يجبه الشيخ بشىء، وقبل أن يصل الأب إلى داره إذا بالشيخ البخارى يلحق به يقوده صبى الحلاق، ويبادر الوالد قائلًا: ما أظنك تأبى أن أكون أنا ضيفك كل يوم ساعة أو نحوها.
عرف نظمى أن شيخه عازم على أن يستمر الدرس دون مقابل، وقد زاد فى جميله حتى النهاية فبدا أمام الأسرة أنه هو الساعى إلى تلميذه صونًا لعزته وحفاظًا على كرامته.
ترك هذا الموقف فى نفس نظمى أثرًا إنسانيًا ونفسيًا كبيرًا.
يقول هو عنه: لم يسع الفتى إلا أن يقارن فى نفسه بين فعل جدة تنتمى للمسيح وتتشدق باسمه، وبين فعل شيخ يصلى بالناس على محمد وآله خمس مرات فى كل يوم.
وعلّق على هذا المعنى وهذا الأثر بقوله: «ليس البر وقفًا إذن على دين دون دين».
يمكن أن تلتمس لنظمى لوقا الطفل العذر فيما قاله، وما استقر فى نفسه، لكن لا يمكن أن نقبل منه الوقوف بعد كل هذه السنوات عند هذا الموقف، خاصة أنه سجله بعد حدوثه بما يقرب من ثلاثين عامًا، عندما أصدر كتابه عن النبى محمد.
فلا يمكن أن نحسب الجدة على المسيح ونتحجج بما فعلته.
أو حتى نعمم موقف الشيخ البخارى ونجعل منه موقف المسلمين جميعًا.
فعلى عكس الجدة يتصرف مسيحيون كثر، وعلى غير ما فعل الشيخ البخارى يتصرف مسلمون كثر أيضًا.
لكن اهتمام نظمى بهذه الواقعة جعل القمص سرجيوس سرجيوس الذى وضع كتابًا اختار له عنوان «الدكتور نظمى لوقا فى الميزان ردًا على كتابه محمد الرسالة والرسالة»- يتهم نظمى صراحة بأنه لم يكتب ما كتبه عن الإسلام محبة فى النبى محمد، ولكن كراهية فى المسيح والذين يتبعونه.. وأنه ما ذهب إلى ما ذهب إليه فى كتابه انطلاقًا من قناعة فكرية، بل دفعًا من عقدة نفسية لازمته منذ طفولته.
يتحدث سرجيوس عن قرار انقطاع نظمى عن دروس شيخه.
يقول: «وأظن أن القارئ لا يصعب عليه الوقوف على ما أصاب الصبى عندما قرر الوالدان هذا القرار الذى لا يقل وقعه على قلب الصبى من تلاوة حكم الإعدام».
ويواصل سرجيوس بناءه: «وعندما تتجمع كل هذه الصدمات وتلتف حول رقبة الطفل كما يلتف حبل المشنقة، إذا بالشيخ يقبل مسرعًا ليرفع حبل المشنقة عن الصبى وعن والديه».
ويستشهد القمص بما قاله نظمى نفسه: «إن الشيخ جاء إلى بيت الصبى ويعرض على أبيه استئناف الدرس للصبى فى بيته كل يوم»، ويعلق على ذلك بقوله: «وهنا عادت الحياة وانقطع حبل المشنقة بهذه المباغتة التى لا يستطيع أحد أن يصفها إلا الصبى لوقا على حد قول الشاعر: لا يعرف الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها».
ويرفض سرجيوس ما قاله نظمى عن جدته ومقارنتها بموقف الشيخ البخارى منه.
وهنا الكلام يطول.
يقول سرجيوس: «كنا نود ألا نتعرض للدفاع عن جدة نظمى لولا أنه جعل منها ومن شيخه مقارنة بين الإسلام والمسيحية، وأراد أن يبين قسوة المسيحية وتأثيرها فى أتباعها من جهة، وحنان الإسلام وعطفه وتأثيره فى أتباعه من الجهة الأخرى، وكان له أن يمتدح الشيخ ودين الشيخ ما شاء المدح دون التعريض بالمسيحية، أما وأنه مغلوب من عادته، والعادة تدرج مع صاحبها فى الكفن، وعادته أن لا يمتدح محمد والإسلام إلا على أساس التشنيع على المسيح والمسيحية».
يواجه سرجيوس نظمى لوقا بعد ذلك مباشرة.
يوجه له الكلام: «أنا أهمس فى أذن نظمى، إن كانت هناك عنده بقية من الاستعداد للسمع، هل تظن أن قساوة جدتك عليك وعلى أمك إلى هذا الحد الذى شرحته كان بسبب كونها مسيحية.. أو لأن همس أهل السويس الذين كانوا يتهامسونه عندما يرونك كل يوم مع الشيخ داخل الجامع- دون جميع صبيان السويس- قد بلغ بصوت مكبر إلى جدتك فى القاهرة وقيل لها إن حفيدك قد سلمه أبواه إلى شيخ جامع السويس وهو فى السادسة من عمره، ليرضعه لبن التعليم الإسلامى، وإن حفيدك صار موضوع حديث الناس وتساؤلهم ودهشتهم؟!».
لا ينتظر سرجيوس تعليقًا من نظمى، لكنه يحاصره بسؤال: «لو كنت أنت حفيدًا لشيخ الجامع نفسه، وسلمتك أمك ليد قسيس داخل كنيسة ليعلمك الديانة المسيحية، وأصاب أمك من الضيق ما أصابها، وذهبت إلى أمها زوجة الشيخ المسلم تطلب مساعدة مالية أو كسرة خبز، فهل كان شيخك العملاق يقدم لها هذه المساعدة، أو كان على العكس من ذلك يرجمها ويحرقها لأنه يعتبرها مرتدة عن الإسلام؟».
لم ينتظر سرجيوس إجابة من نظمى أيضًا، وطبيعى جدًا ألا ينتظر منه إجابة، لأنه يتحدث من أرضية أنه يمتلك الحق المطلق، ولذلك يقدم له خلاصة ما توصل إليه بقوله: «إذن لم تكن جدتك قاسية فى جانب أمك بل غضت الطرف عنها معتبرة إياها كما اعتبرتها».
كان هناك ما هو أكثر، وأعتقد أن سرجيوس بعد أن سجل ما قاله ظن أنه نسف أسطورة نظمى لوقا تمامًا، فبعد سرده ما جرى على الجبهتين، جبهة الجدة المسيحية وجبهة الشيخ المسلم، قال: «لقد تكاملت فى أضلاع نظمى ناران، نار الحب التى أشعلها الشيخ فى قلب الصبى بتعليمه، ونار الكره للمسيحية التى أضرمتها جدته فى قلبه بقساوتها، وكل هذا كان له أثره الفعال فى نفسه فى حال طفولته، فإذا قيل عن البعض إنهم يعيشون فى دور الطفولة، فذلك لأنهم صدموا بصدمات شديدة فى طفولتهم كالصدمات التى صدم بها الطفل أو الصبى نظمى، فعاش متأثرًا بما لاقته أمه من قسوة وما لاقاه هو من ضيق وفقر ومرارة، تتفاعل فيه تلك العوامل كلها، عوامل الحب للشيخ وعوامل البغض لجدته ودين جدته».
تقول لنا حكمة اليونانيين القديمة: «ويل لمن سبق عقله زمنه».
شىء من هذا حدث لنظمى لوقا، فقد كانت الفكرة التى طرحها فى كتابه «محمد الرسالة والرسول» متجاوزة حدود الأشخاص إلى الإنسانية كلها، ومتعدية حدود الأديان إلى حد مصدر الأديان الواحد الأحد، لكن القمص سرجيوس وغيره من رجال الدين المسيحى حصروا الأمر بين قوسين ضيقين جدًا، عندما تعاملوا معه على أنه مجرد انتصار للإسلام على المسيحية بقلم كاتب مسيحى، ولذلك كان كل همهم أن يقولوا إن الكاتب ليس مسيحيًا من الأساس، وعليه فليفعل ما يشاء.
يشرح القمص سرجيوس سبب تصديه لنظمى لوقا، مقدمًا بين يد هذا الشرح مبررات، أعتقد أنه لو كان حيًا بيننا الآن لكان فى حاجة مُلحة إلى مراجعتها.
أثبت أولًا أنه لم يندهش أن مسيحيًا يكتب عن محمد، كما لم يندهش لمسلم كالعقاد أن يكتب عن المسيح، لأن من حق الناس أن يبحثوا كل رسالة رسول يدعوهم لاعتناقها.
كان سرجيوس معترضًا على عنوان كتاب العقاد «عبقرية المسيح»، لأن السيد المسيح بالنسبة له هو ابن الله، النازل من السماء، وقد حبل به من الروح القدس، كما يقول الإنجيل والقرآن، وله السلطان على إخراج الشياطين، ومن ثم فسموه الفائق ليس عبقرية، إنما هو لاهوت متجسد.
الأمر بالنسبة لنظمى لوقا عند سرجيوس كان مختلفًا، يقول هو عن ذلك: «إننا نتعرض لكتاب نظمى لوقا لأنه:
أولًا: بقى مسيحيًا بعد أن آمن بمحمد وديانته، واعترف بأنها الديانة التى جاءت لتصحيح أخطاء أهل الكتاب، وبأنها الديانة التى ما بعدها دين والتى حلت محل اليهودية والمسيحية إلى آخر ما وصفها به من الأوصاف المتناهية السمو والكمال، وبعد أن جعل من الديانة المسيحية مطرحًا لكل زبالة أفكاره، فقال إنه لم يبق فيها إلا الذين لم يتطوروا، وإنها عجزت عن أن تلاحق تطور البشر ومستويات إدراكهم ووعيهم العمرانى».
ويتوجه سرجيوس بكلامه إلى نظمى قبل أن يصل إلى ثانيًا، يتحدث عنه بقوله:
«هل تراه لا يزال فى شك مما كتب، فيتوقع منا ردًا يقنعه بفساد رأيه فيظل قابعًا فى مسيحيته.. أو أن غروره بلغ حدًا توهم معه أن المسيحيين يعجزون عن الرد عليه، فيندفع إلى اعتناق الإسلام فى زفة مقطوعة النظير، تطوف الشوارع وربما بلاد القطر باعتباره بطلًا من أبطال التاريخ استطاع بجرة قلمه أن يحطم صخر المسيحية التى تحطمت عليها جميع قوات الجحيم.. أو أنه بقى متترسًا فى مقعده من المسيحية ليكون أقوى برهان ضد المسيحية ولصالح الإسلام، على قاعدة (وشهد شاهد من أهلها)..».
ويصل سرجيوس بعد ذلك إلى ثانيًا.
يقول: «تعرضنا لكتاب نظمى لأنه كتب عن محمد على حساب المسيح، بينما كتب الكتاب المسلمون عن المسيح ولكن ليس على حساب دينهم، بل كانوا إذا ما اضطروا إلى تدوين حقيقة عن المسيح لا يمكن إنكارها، كانوا يكتبونها فى لباقة وخفة يد بحيث يتحاشون الاصطدام مع دينهم وكتابهم، وبحيث لا يشعر القارئ بأنهم هربوا أو تحاشوا عن الاصطدام».
كانت لدى سرجيوس مهمة أساسية، وهى إثبات أن نظمى لوقا لم يكتب ما كتبه عن الإسلام ورسوله وهو مسيحى.
يصل إلى مراده بسخرية مبطنة يقول خلالها: «أما الدكتور نظمى المسيحى الصليبة ( ومعناها مسيحى أصيل) كما يصف نفسه فقد خيل إليه أن يذيب المسيحية، ويجعل منها مددًا يصوغ به عقود مدح لمحمد ودينه، الأمر الذى لاحظه قارئو كتابه فقالوا: إنه مسلم أكثر من المسلمين، ومحمدى أكثر من محمد، بدليل أنه أخذ يفسر آية القرآن (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)، قائلًا: إن أهل الذكر هم من يذكرون الله ويصدقون ويتقون».
ويشتبك سرجيوس مع نظمى فيما قاله.
يقول: «هذا التفسير يخالف تفسير أئمة الدين الإسلامى، وفى مقدمتهم الإمام البيضاوى الذى فسرها بقوله: أهل الذكر هم أهل الكتاب أو علماء الأحبار، بل يخالف نص القرآن الصريح (فإن كنت فى شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك)، كما يخالف سياق الكلام، وهذا التعسف من الدكتور نظمى المسيحى لأنه لا يريد أن يعترف بكتابى اليهود والنصارى أهل الذكر، ومن هنا تأكد لقراء كتاب نظمى صدق القول المشهور (المتعصب دخيل)..».
أغلب الظن أن سرجيوس سرجيوس تلقى كتاب «نظمى لوقا» بعد أن كون وجهة نظر عنه، ولذلك ترى منه رفضًا تامًا للكاتب والكتاب معًا، وكان منطقيًا بعد ذلك أن يحشد فى أدلة إسلام نظمى الذى لا يمكن أن يكتب ما كتب وهو مسيحى، وأن يرفض حتى وصفه بأنه مجرد متعصب دخيل.
يقول عنه: «أنا لا أقول إن الدكتور نظمى دخيل على الإسلام، بل هو معجون بالإسلام عجنًا، بل على حد القول: نزل من بطن أمه مسلمًا، وهو بنفسه قد كشف عن حقيقة ولادته فى الإسلام».
من حقك أن تسأل عن الذى قاله نظمى، وقرر سرجيوس بعد قراءته أنه ولد فى الإسلام؟.
ومن حقك أن تندهش عندما تكتشف أن سرجيوس يستند فيما قاله إلى قصة نظمى لوقا مع الشيخ عبدالله البخارى الذى حفظ القرآن على يديه، وهى القصة التى يعلق عليها بما يعتبره منطقًا منضبطًا، لكننى أعتقد أنك بعد أن تقرأ كلامه ستجد فيه بعض العوار.
يقول سرجيوس: «كيف لم يعجن الدكتور نظمى بالإسلام وهو منذ نعومة أظفاره لم يمكث فى حجر أمه ولا رضع من لبانها بقدر ما مكث فى حجر الشيخ وحضن الجامع ورضع من لبان تعاليمه، ولا تمتع بابتسامة والديه بقدر ما شبع من ابتسامات الشيخ منذ كان كالعجينة اللينة أو الشمع الطرى القابل للتشكيل، والطبع بأى طابع، والعلم فى الصغر كالنقش على الحجر، أو كما قال سليمان الحكيم (رَبِّ الولد فى طريقِه، فمتى شاخ أيضًا لا يحيدُ عنه)، ولا سيما أن الشيخ قد اصطفاه دون صبيان المسلمين والمسيحيين، وخصص ذاته لتدريسه دون سواه، غير مبال بهمسات الناس ولا مجاهرتهم».
ودون أن يمتلك أى دليل اللهم إلا ما قاله نظمى نفسه، يحاول القمص سرجيوس أن يصور الأمر على أنه مؤامرة، خطط لها بوعى شديد الشيخ البخارى، فهو يميل إلى أنه اصطفى الطفل نظمى من بين أطفال المسلمين والمسيحيين، حتى يعلمه القرآن وعلوم الدين، ليستخدمه بعد ذلك فى الانتصار للإسلام على حساب المسيحية.
ورغم هزال الفكرة، فإن القمص سرجيوس فيما يبدو كان مقتنعًا بها تمامًا، ولذلك حشد مزيدًا من الإشارات ليؤكدها.
اسمعه وهو يقول: «هذا التخصص والانفراد مكّن الشيخ من أن يصب العلم فى الصبى صبًا، فجعله يحفظ القرآن ويُجوّده بأقوم لسان فى السن التى يكون فيها لسان الصبى مائعًا لا يضبط اللفظ تمامًا، ولا سيما لفظ القرآن.. الأمر الخارق للعادة، وكيف لا يكون خارقًا أن صبيًا فى السادسة من عمره يستطيع بعد التلاوة مباشرة أن يبين معانى السورة، والشيخ يناقشه ويقلبه على كل الوجوه.. والأمر الذى لم يسمع عنه فى العالم الإسلامى، لا فى أولاد الصحابة ولا المقربين، أن تمتّع صبى منهم بمثل ما تمتع وامتاز الصبى نظمى من ذكاء وحظوة».
تعامل القمص سرجيوس مع الشيخ البخارى على أنه مؤسسة كبيرة لها أهداف وخطط، ولديها إمكانيات كثيرة لتنفيذها، ولم يلتفت إلى أنه مجرد شيخ كفيف رقيق الحال تصادف أن وضعت الأقدار نظمى فى طريقه، فلمح فيه ذكاءً، فاهتم به، ولأنه كان سمحًا متسامحًا يحتوى الأديان كلها فى قلبه انتقل الأمر إلى قلب فتاه فأصبح على شاكلته، وكما كان البخارى متمسكًا بإسلامه، ظل نظمى متمسكًا بمسيحيته.
يحاول سرجيوس أن يعظم من أمر الشيخ البخارى عند نظمى حتى يؤكد وجهة نظره.
اسمعه وهو يقول: «لم يُسمع قط عن شيخ استطاع أن يجعل من نفسه لدى طفل فى السادسة من عمره كل شىء فى الحياة، كما كتب نظمى بيده، إذ قال: (أمن عجب بعد هذا أن يكون الشيخ ملاذ الفتى فى كل كلمة، ونبراسه فى كل مدلهمة، وقدوته التى يأتم بها عقلًا وقلبًا وعاطفة وضميرًا، لقد أصبح الشيخ القزم عملاقًا، وسكن إليه الفتى واطمأن، وأخذ نفسه بأدبه وفضله، أمره الأمر، ورأيه الرأى، والشيخ من وراء ذلك كله أعز عليه من أهل الدنيا جميعًا)..»، يعنى أعز من والديه أنفسهما، لأن كلمة جميعًا دلت على أنه ليس لوالديه مكان بجوار الشيخ.
واسمع له أيضًا: «وكيف لا يكون هذا الشيخ القزم عملاقًا لدى الصبى، وقد صنع معه المعجزات التى لا تستطيع العقول إدراك كنهها، جعل الطفل يشعر فى غير ميعاد الشعور بالملمة والمدلهمة، كما جعله يقوى على احتمالها، بقدرته القادرة كلما لاذ بالشيخ ملاذه».
يخلص سرجيوس من ذلك إلى النتيجة التى يريد جعلها حقيقة لا تقبل النقاش، حيث يرى أنه لا يمكن أن يستغرب أحد بعد ذلك من صبى هذه نشأته وهذه عجنته أن يتهجم على المسيحية بهذا القلم المغموس فى دواة صب فيها ما صب فى طفل كان يعيش ذلك الوقت فى العقل الباطن، وراحت تلاحقه فى هذه السن، الصدمات النفسية.
لقد حاول نظمى بكتابه أن يقرب الأديان من بعضها لأن أصلها واحد، وليس منطقيًا أن تكون سببًا لعداوات بين البشر الذين هم جميعًا أبناء إله واحد، لكن سرجيوس حاول أن يفسد المحاولة، فتعامل معها على أنها مؤامرة.
سيقول بعض من ينحازون لرؤية سرجيوس، إنه لم يقل إن ما فعله نظمى كان مؤامرة، بل قدم نقدًا له، ولا يمكن أن نعيب عليه ذلك أو نلومه.
وقول على قول، لا يمكننى بالطبع أن أعيب على القمص سرجيوس محاولته لنقد ما فعله نظمى، وقد حاول بالفعل أن يستخدم العقل والمنطق، لكن هذه المحاولة ضاعت بالنسبة لى، عندما قال فى بداية فصل كتابه الأخير الذى وضعه تحت عنوان «سهم طائش».. قال: «لا بد من نفض القلم من هذا الرد، وقد فتح نظمى باب الموازنة بين المسيح ومحمد، وما كان نزيهًا فى المقارنة إذ قادت قلمه الطائش مآرب حقيرة أو كان أداة فى يد من ينفذ مراميها فى غضاضة وخنوع».
هذه كانت الأزمة الكبرى.. فقد توالت الاتهامات على رأس نظمى لوقا، ولا تزال، لأن من تلقوا كتابه لم يتعاملوا معه على أنه مجرد رؤية فكرية فلسفية تسعى وراء الحقيقة المجردة، ولكن نظروا إليه على أنه مؤامرة.. فهل كان كذلك بالفعل؟
السؤال ليس عابرًا.. ولذلك فهو يحتاج إلى إجابة ليست عابرة.