رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قاصة مسيحية تكتب: عليه الصلاة والسلام

جريدة الدستور

- الإنجيل يدعو لاحترام المعتقدات الأخرى وعدم المساس بها إطلاقًا وحسن معاملة أتباعها
- معظم المسيحيين يردون على عبارة «صلى على النبى» بالقول «عليه الصلاة والسلام»

تلقت «الدستور» توضيحًا من القاصة مريم عيد بشرى حول حلقات الكاتب الصحفى محمد الباز عن المفكر الراحل نظمى لوقا، أشارت فيه إلى أن الأخير تم حرمانه كنسيًا بسبب كتاباته ضد العقيدة المسيحية، وليس بسبب كتاباته عن النبى محمد، لافتة إلى أن ذلك حدث عام 1959 أى ليس فى عهد البابا الراحل شنودة.

وقالت «مريم»، فى توضيحها، إن «مبادئ الوحدة الوطنية تعلمتها الأجيال المسيحية من قداسة البابا شنودة، بابا العرب، وليس من نظمى لوقا»، متسائلة: «لماذا لا ينتقل ذلك بصورة سليمة إلى إخوتى المسلمين ليؤثر فيهم بطريقة إيجابية كما أثر فينا؟».
ولفتت إلى أن لها قصة قصيرة ضمن مجموعة قصصية فازت بها بالمركز الثانى على مستوى الكرازة المرقسية فى المسابقة الثقافية والأدبية عنوانها «عليه الصلاة والسلام»، معتبرة أن ذلك ينفى حرمان نظمى لوقا بسبب كتاباته عن الرسول. و«الدستور» تنشر هنا قصة مريم عيد بشرى كاملة.
على مدار حياتنا ربما تتلى على مسامعنا نفس العبارات بنفس الكلمات، ولكن مع الاختلاف الشاسع للمغزى والمردود.. ينطبق هذا على عبارة بعينها قيلت لى مرتين، ولكن ما أبعد الفرق بين المرتين.. ما أبعد الفرق بين قائليها فى المرتين، ما أبعد الفرق بين التوقيت والظروف التى قيلت فيهما، ما أبعد الفرق بين المقصود منها فى الحالتين، ثم ما أبعد رد فعلى الداخلى والخارجى فى المرتين!.
المرة الأولى عندما كنت فى الحادية عشرة من عمرى، حيث جاءتنا أنباء عن المرض الشديد لخالتى المقيمة بالإسكندرية، ودخولها المستشفى للعلاج... سافرت بصحبة أمى إلى الإسكندرية، كرد فعل طبيعى لما يمليه الواجب والظروف.
منذ الصغر وأنا أسمع الكثير عن جمال خالتى.. فى شبابها كانت أجمل فتيات العائلة، وكان جمالها مضرب الأمثال، كان الناس فى مدينة المنصورة يلقبونها بـ«الخواجاية».. الدليل المادى الذى كنت أراه هو الصور القديمة الأبيض والأسود الموجودة لها فى منزلنا.. فتاة جميلة مائلة إلى البياض ذات شعر كستنائى مسترسل، ممشوقة القوام ولكنها ليست نحيفة.
عرفتها بعد أن كانت قد أنجبت ثلاثة من أبنائها كانوا قد أنهوا تعليمهم الجامعى، وفتاة جميلة صغيرة ماتت إثر حادث أليم قبل أن تنجب بقية أولادها.. أنهكها مرض السكر اللعين، ولكنها ما زالت تحتفظ بآثار واضحة للجمال. فعيناها لامعتان وشعرها الآن قصير مقصوص A la garcon ولكنه مسترسل، وجبينها وضّاء.
وفوق هذا كله طيبتها الواضحة وقلبها الأبيض.. لم تكن تشوبها شائبة سوى بعض من عصبية ربما كانت السبب المباشر فى إصابتها بمرض السكر.. لذلك كان لها لقب آخر غير لقب «الخواجاية»، وهو لقب «الملاك». فلقد كانت بحق امرأة مثل الملاك.
أفضل أعمال خالتى على الإطلاق من وجهة نظرى كطفلة، هى أنها أهدتنى دميتى المفضلة التى أحتفظ بها حتى الآن.. عروسة تغنى أغانى بالإنجليزية كانت قد أحضرتها لى من «مالطة» حيث كانت فى رحلة مع زوجها الذى يعمل بإحدى شركات البترول العريقة، بالإضافة إلى العديد من الصور التى تظهر الطبيعة الغنّاء لتلك الجزيرة الخلابة.
كان جميع أفراد العائلة يتوافدون على المستشفى لزيارتها.. فى بعض الأحيان عندما تكون أمى بمفردها كانت تبكى.. لم أكن أدرى ما سر بكائها، كنت أحسبه حساسية مفرطة وتشاؤمًا. فالمرأة لا بد أن تشفى على أية حال.. لكن سبب بكاء أمى أنها كانت مدركة أنها بين الحياة والموت.
فى إحدى المرات تصادف أن كنت مع أمى بمفردنا فى غرفة خالتى.. حينما أرادت أمى استدعاء طبيب ليباشر حالة خالتى، حيث أحست بنوع من الاضطراب فى حالتها.. فتحت أمى باب الغرفة وإذا باب الغرفة المقابلة ينفتح أيضًا لتظهر منه امرأة سوداء ترتدى غطاء رأس أسود ومتشحة بأكملها بالسواد.. بدت المرأة كبهيم ليل فى وضح النهار.. رأت المرأة أمى متحيرة فسألتها عن سبب ذلك، ولما علمت منها أنها تريد أن تذهب لإحضار طبيب، لأنها تشك فى أن جهاز ضربات القلب به نوع من عدم الانتظام.. أمسكت تلك السيدة أمى من يدها محاولة طمأنتها، وعادت بنا إلى الغرفة مرة أخرى، وجلست إلى جانب خالتى، شبه الفاقدة للوعى، وقالت لها:
- ربنا يشفيكى يا حبيبتى، إنتى دلوقت هاتروقى وهاتبقى كويسة، ماتصلى على النبى آمال.. بس أهم حاجة يلَّا قولى ورايا: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله.
انتفضت أمى مذعورة من تلك العبارة.. ربما خشت أن خالتى وهى شبه متغيبة عن الوعى ولا تدرى ماذا تقول أو ماذا تفعل يمكنها أن تردد ما قالته السيدة للتو.
صرخت فى السيدة التى بدت فى تلك اللحظة كالشيطان:
- إيه يا ست إنتى ده؟ إيه اللى بتعمليه ده؟
تصادف ذلك مع دخول الطبيبة المسلمة للغرفة، والتى استوعبت الموقف سريعًا وصرخت فى السيدة:
- إطلعى برة يا ست إنتى، إطلعى من هنا.. يلَّا.. إنتى عايزة تعملى لنا مشكلة فى المستشفى ولا إيه؟.
بعد عدة أيام علمت بوفاة خالتى.. كان ذلك هو الإدراك الأول لى للموت، ولكنه بالطبع لم يكن إدراكًا كاملًا أو ناضجًا.. عندما كنت أصغر قليلًا وفقدت جدتى فى سن السادسة، وعلى الرغم من حبى الشديد لها، كنت أعتقد أنها ستقوم برحلة خلوية ثم تعود بعد قليل كما كانت توحى لى إجابات الكبار بأنها ذهبت أو سافرت إلى السماء وما شابه من تلك الإجابات.. وعندما مر وقت طويل ولم تعد بعد أكثر من أربعين يومًا، بدأت أبكى عدم وجودها وغيابها من بيننا.. أما عند وفاة خالتى فالأمر مختلف، فبدأت أدرك الآن مع سماعى الخبر شراسة ما يسمى «الموت» وكيف يسمح الله لذلك الكائن البشع بخطف أعز الناس لدينا.. لم أكن أدرك بعد قدرية وحتمية الموت لجميع الأحياء.
كبرت وتخرجت فى كلية التجارة، وعملت فى بنك الائتمان الزراعى فرع المنصورة.. يتوافد على البنك يوميًا عشرات المزارعين وأقاربهم أو زوجاتهم لإنهاء إجراءات قروضهم البنكية أو لاستلام القروض بالفعل، بمرور الوقت ويومًا بعد يوم، أصبحت لدىّ خبرة كبيرة فى التعامل مع عملاء البنك ومعرفة متطلباتهم، والأوراق المطلوبة منهم ونظام سدادهم القروض.. أصبح حسن تعاملى مع الجماهير مضرب الأمثال ومحل تقدير رؤسائى.
ذات يوم تقدم أحد عملاء البنك ليسألنى عن إجراءات إتمام قرض له، وقبل أن يتوسع الحديث بيننا استفتحه بقوله:
- طيب صلى على النبى.
أحسست أن عبارة الرجل لا تنطوى على سوء نية، ولكنها تحمل نوعًا من الخبث غير المؤذى... لا يوجد بالطبع بينى وبين عبارة «صلى على النبى» أية مشاكل.. فهى جملة فعلية أمرية تأمر سامعها بالصلاة على النبى، والإجابة المطلوبة هى «عليه الصلاة والسلام».
النبى المقصود بالطبع هو نبى الإسلام، النبى محمد عليه الصلاة والسلام، والذى له دوره المعروف تاريخيًا ودينيًا.. فتاريخيًا هو رجل استطاع لم شمل وتوحيد مجموعة من القبائل المبعثرة.. ودينيًا هو نبى لدين يؤمن به الملايين على وجه الأرض، والغالبية العظمى من بنى وطنى... وهو متقدم فى الأيام.. فلماذا لا أصلى وأسلم على ذلك الشيخ الجليل.
فقلت له على الفور: وعليه الصلاة والسلام.
رد الرجل وكأنه قد توصل لنتيجة تجربة ما: أنا آسف يعنى.
فأجبته: لا أبدًا مافيش حاجة.
تأكدت شكوكى الآن بعد أسف الرجل بأن عبارته تلك كانت تحمل نوعًا من الاختبار لمدى تعصبى.. ولكنه ربما قالها بعفوية ولا يقصد شيئًا على الإطلاق.. ولكنه لو كان يقيس مدى تعصبى من عدمه فمقياسه غير دقيق.. معظم المسيحيين يقولون نفس الرد بعفوية وبدون أى حساسية.. ولكن بعض الناس ربما لا يستطيعون قول «عليه الصلاة السلام» ليس عن تعصب، ولكن عن موقف إيمانى اعتقادًا منهم بأن ذلك سينقلهم من المسيحية إلى الإسلام.
فى سنى دراستى عندما كان يسألنى زملائى:
- هل تؤمنون بالنبى محمد عليه الصلاة والسلام؟
كنت أقول لهم إنه لم يذكر شىء بخصوصه فى كتبنا المقدسة، وكل دين يقول بأنه هو الطريق الوحيد المؤدى إلى الحياة الأبدية.. ولا يوجد دين على وجه الأرض يؤمن بدين آخر بعده، وإلا فمعنى ذلك نهاية إيمانه بدينه.. فاليهود لا يؤمنون بالمسيحية، والمسيحيون لا يؤمنون بوجود دين آخر بعد دين المسيح.. فقط لم يذكر شىء بخصوص الرسول محمد عليه الصلاة والسلام فى كتبنا المقدسة.. ولكن من واجبنا احترام معتقداتكم وعدم المساس بها إطلاقًا كما يأمرنا الإنجيل باحترام عقائد الآخرين وعدم المساس بها وبألا نطعن فى أحد.. فقداسة معتقداتكم محفوظة لدينا.
عندما كان يتطرق الحديث مع مديرى فى العمل الآن إلى نحو تلك الموضوعات بدون ترتيب مسبق، وكان يسألنى نفس السؤال وأجيبه نفس الإجابة كان يجيبنى ضاحكًا: وأنا لو ظهر دين آخر بعد الإسلام لن أؤمن به.
فى المرة الأولى عندما سمعت «صلى على النبى» وأنا طفلة فى المستشفى مع أمى فى الإسكندرية، كانت العبارة تعكس موقفًا غير لائق وتهديدًا إيمانيًا ونوعًا من الإكراه فى الدين.. أما فى المرة الثانية عندما سمعتها وأنا آنسة فى الثلاثين من عمرى حتى وإن كانت تخفى بعض التوجس غير الصحيح من الآخر، إلا أن وقعها كان طيبًا.. فجاءت إجابتى المنطقية بأن «عليه الصلاة والسلام».
أجلس أمام التليفزيون الذى يعرض فيلمًا هنديًا للنجم الشهير «أميتاب باتشان».. تدور أحداث الفيلم عن ثلاثة إخوة اختطفوا فى طفولتهم وتفرقوا لظروف ما، وشب كل منهم فى بيئة مختلفة وأصبحت له ديانة مختلفة.
يعز علىّ أن أجد دولًا لا تملك وحدة وطنية تاريخية مثلنا، ولكنها بالرغم من بعض الاغتيالات الطائفية بها، إلا أنها على مستوى أفرادها وإعلامها تملك حرية دينية أكبر ومقدرة على التعايش بين مختلف الطوائف لا يشوبها ذلك الاحتقان الطائفى الخفى، الذى يؤرقنى، بين أبناء الوطن الواحد والذى أعراضه التوجس، والحذر غير المبرر من الطرفين بدون دواعٍ أو عوائد.