رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

صورة حقيقية يستحقها الوطن


قرابة خمسين عامًا مرت، منذ انتصار أكتوبر العظيم عام 1973، ولم تحظ هذه الملحمة العسكرية الرائعة بما تستحقه من التناول الدرامى، عبر فنون السينما والتليفزيون، بالرغم من تفردها، كمعركة عسكرية، أسقطت كثيرًا من الثوابت الإسرائيلية، وكشفت بجلاء عن القدرة المصرية، فى التخطيط والتكتيك، وإدارة المعارك، لاسترداد الحق السليب، وفوق ذلك، أبانت عن قدرة المقاتل المصرى، الذى إذا ما أراد فعل، وقلب موازين المنطق والقوى.
زمن طويل مر علينا، ونحن لم نصنع إعلاميًا، صورة حقيقية، تُثبت القدرة على النصر بروح الفداء لمؤسسة عسكرية، حملت على كتفيها مسئولية صون العرض واسترداد الأرض.. ونحن أصحاب الأرض لم نقتد حتى بمن كانوا معتدين، وصنعوا من ذلك العدوان ألف ملحمة وملحمة، بهتانًا وزورًا، لا لشىء إلا لتقديم صورة لمواطنيهم عن جيوشهم، بأنها الأقوى والأهم، والأكثر عدلًا وديمقراطية.. وكان حرى بنا لو أننا فعلنا ما كان يتوجب علينا، منذ بداية هذه السنوات الخمسين، لكان بين ظهرانينا أجيال وُلِدت وتربت ونشأت على الحب الخالص لهذا البلد والإيمان به.
لست وحدى من ينظر الآن، ويتحسر على الزمن الذى انقضى دون فعل ما كان يجب فعله، بل يزيد الوجع عندى، أن ملاحم البطولة فى جيشنا المصرى ما زالت مستمرة، ونحن لم نُعرها أيضًا أى اهتمام ولا نراها بما يليق بها من صورة رائعة.. ملاحم مواجهة الإرهاب على أرض سيناء، وفى كل البؤر التى تهدد سلامة هذا الوطن العزيز، فى بعض مدنه، وعلى حدوده، وما أعظمها من تحديات الآن، وملاحم البناء والتنمية التى تدور رحاها على أرض مصر كلها، ملاحم تستهدف حماية الإنسان فى أرضه، وصون كرامته وعرضه، وأخرى تحقق له عيشًا كريمًا، وغدًا ينعم فيه بالرخاء والأمان الاجتماعى.. لست وحدى من يدرك هذا التقصير فى حق الوطن، عندما نُقصر فى حق من يذودون عن هذا البلد.. فالغالبية من أهل الاختصاص تدرك غياب الأعمال المؤثرة خلال السنوات الماضية، بالرغم من وجود «حرب» فعلية على مصر، على كافة المستويات الثقافية والاقتصادية والسياسية، مع أن للأعمال الدرامية دورًا مهمًا فى تشكيل وعى الجمهور الذى يحرص على متابعتها، وأن على الدولة دعم الصناعة بشتى الطرق، ومن الضرورى وجود محتوى جيد، يُقدم من خلاله الشكل اللائق الذى يحارب الإرهاب، وأن على المبدعين التكاتف فى توصيل هذه الرسالة.
ولأن الدراما التليفزيونية تحتل مكان الصدارة، وتمثل النصيب الأوفر فى برامج الترفيه والتسلية، خاصة فى رمضان وغيره من مواسم المشاهدة، فإن الملاحظ مدى الاهتمام الكبير الذى يعطيه لها المراهقون والشباب وغالبية النشء.. ساعات طويلة تقضيها هذه الفئة العمرية لمتابعة ما تعرضه الشاشة الصغيرة من مسلسلات، لذلك فإن التأثيرات التى تفرزها لا تشكل تحديات لثقافتنا وعاداتنا وتقاليدنا فحسب بل تشكل خطرًا يمس سلوكيات تلك الفئة العمرية، إن لم يتم توجيه مضامين الأعمال المختلفة من الدراما، بعيدًا عن العنف والتمرد والوحشية وتمجيد المغامرات الفردية المؤذية للشخص نفسه أو للغير.
وتتفق الغالبية على قدرة الدراما التليفزيونية فى التأثير على بعض الناس، وإن اختلفت نسبة التأثير واختلفت النظرة إلى قدرتها على التأثير بين شخص وآخر.. البعض يرى أنها قادرة على التأثير بنسبة كبيرة، وتملك قدرة على التغيير فى طبيعة حياة أفراد المجتمع، فى حين يرى البعض الآخر أن المتلقى هو الملهم فيما يجب على الدراما أن تتناوله.. بمعنى أنه هو من يُسيرها حسب طبيعته وليست الدراما هى من تُسير المتلقى، بينما الواقع يقول إنه لا شيئًا يُغير المجتمع إلا المجتمع نفسه.. فلماذا إذن لا نُغير أنفسنا من خلال أهداف سامية، لا تنتصر للذات، بقدر ما تنتصر للوطن؟!، وهى مهمة لا بد أن تنطلق أولًا، من إيمان صُناع الدراما بأن هذا البلد يستحق أن يعلو ولا يُعلى عليه، وإيمان الدولة بأن الاستثمار فى الفن، هو استثمار فى أجيال حالية، وأخرى تالية، أنه، أى الفن، عمود خيمة، يحمى سقف هذا الوطن من الانهيار فوق رأسنا جميعًا.. لا تستهينوا به.
سألنى سائل: لماذا تصر بين وقت وآخر، أن تكتب فى هذا الموضوع؟.. والحق الذى أود قوله، إن ليت مصر، بكل فنانيها ومبدعيها مقصورة على تحقيق ما أطالب به، بل العكس.. فلها الريادة فى الفنون والعلوم، وكل ما قامت عليه المنطقة من حولها، درجة أن كل ساكنى دول المنطقة كانوا يتحدثون بلهجة مصرية، صاغتها على ألسنتهم، أعمالنا الفنية.. نحن من علمنا الصناعة لجيراننا، نحن من نملك قطاعات إنتاجية ضخمة، وشركات القطاع الخاص أكثر الآن من أن تُحصى.. لكن غابت الدولة، وتقوقعت قطاعاتها وانكفأت على مشاكلها المالية، وصال الخاص فى قيم المجتمع ورسخ سلوكيات شخوصه وأبطاله، بما عاد على المجتمع بالتفكك والانحلال.. أزيدكم من الشعر بيتًا.. تابعت الأيام الماضية، مسلسلًا طويلًا، صنعته تركيا، راعية الإرهاب فى المنطقة، عن بطولات جيشها وإنسانيته الطاغية، ومقاومته للإرهاب، غير غافل عن الحكايات الإنسانية التى يعيشها أفراد فريق المهمات الخاصة، الذى يحمى البلاد ويُنقذ العباد.. ولولا معرفتى بالدولة التركية لصدقت ما أراه فى أحداث هذا المسلسل!.
فما بالنا، ونحن أصحاب حق، وبلدنا مُهددة من كل ناحية، إرهاب يحوط بها من كل جانب، وشهداء لنا يرتقون إلى السماء فى كل يوم، مخلفين وراءهم، أطفالًا يتامى، وأمهات ثكالى، وزوجات أرامل.. حياة اجتماعية تتحطم، فى كل لحظة برصاص الإرهاب، ونحن لم نفلح فى أن نصل بهذه الصورة الحقيقية إلى مواطنى هذا البلد، فيعلمون بحق أننا فى حالة حرب، وعلى الكل أن يتجرد من هواه، وإن لم ينصر بلده فاعلًا، فعلى الأقل، ينصرها مُصدقًا بأنها صاحبة ما لا بد الاتفاق عليه والالتفاف حوله.. الحفاظ على الوطن حياة مواطنيه.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.