رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«لولى ومرجان 3»..

محمد العسيرى يكتب: من «شموع» بوذا وأوزوريس إلى فوانيس الخليفة ومحمد فوزى

محمد العسيرى
محمد العسيرى

زفة رمضان
«مافيش حاجة تيجى كده».. ليست مجرد شطرة فى أغنية لنانسى عجرم.. هوه فعلا ما فيش شىء صدفة.. وارتباط شهر رمضان بالفانوس ليس صدفة بالتأكيد.. والذين ينسبونه إلى الفاطميين وحدهم يستسهلون الأمر حتمًا.
الحكاية أقدم من كده بكثير جدا.. وحتى لا يتهمنى أحدهم بالعنصرية والتحيز لمصر والفراعنة.. سألجأ إلى المقريزى.. نعم المقريزى صاحب «الخطط التوفيقية».. الذى يعود به إلى احتفالات المصريين المسيحيين بالكريسماس.. لكن د. عمرو عبدالعزيز منير وفى مقال مهم له نشر بتاريخ ٢١ يونيو ٢٠١٦ بجريدة «القاهرة»، يعيد الأمر إلى أيام إيزيس وأوزوريس، حيث يؤكد أن المصريين القدماء كانوا يحتفلون بظهور «كوكب سيريوس».. وهو الكوكب الأكثر لمعانًا وإضاءة بعد الشمس والقمر وكوكب الزهرة.. «النجم الرابع يعنى».. هذه المناسبة التى كان يظهر فيها سيريوس كان المصريون القدماء يحتفلون فيها بخمسة آلهة من بينها إيزيس وأوزوريس كل إله فى يوم.. فى ذلك اليوم يضيئون الشوارع بالشموع.
يؤكد المقريزى أن المسيحيين أخذوا من الفراعنة طريقة الاحتفال، فكانوا يحتفلون بعيد ميلاد المسيح «الكريسماس» بنفس الطريقة.. ولما جاء الفتح العربى لمصر ودخل عدد كبير منهم إلى الإسلام، كانوا يحتفلون بصيامهم بنفس الطريقة التى كانوا يحتفلون بها فى المسيحية، حيث كانوا يوقدون شموعهم فى الكنائس. ويرجع المؤرخون استعمال الفانوس فى البلاد الإسلامية إلى عمر بن الخطاب.. حيث أمر بإضاءة الشوارع والمساجد بالقناديل طيلة الشهر.. والثابت حسب الرحالة ابن جبير أن المسلمين كانوا يعيشون فى دور- منازل يعنى- بعيدة عن مئذنة المسجد فى مكة.. ولذلك كانوا ينصبون قطعة من الخشب طويلة ومرتفعة فى رأسها عود كالذراع، وفى طرفيه بكرتان صغيرتان يرفع عليهما قنديلان كبيران من الزجاج يضيئان وقت السحور. فإذا ما اقتربت نهايته يرفع المؤذن القنديلين، فيعرف من ينوى الصيام أن وقت السحور قد حان بنظرة إلى القنديلين المنطفئين.
مصادر أخرى تؤكد أن أهل الصين كان لديهم عيد يسمونه عيد الفوانيس ليلة البدر الأول من الشهر الأول فى السنة، وأن الإمبراطور «يوان شياو» عندما علم بأن البوذيين يشعلون الفوانيس احترامًا لبوذا أمر بإشعالها فى قصره وفى المعابد.. ثم تحولت إلى طقس شعبى.
أما كلمة فانوس فأصلها يونانى، وتعنى «الشمع المصنوع من شمع عسل النحل»، ويعد اليونانيون والرومان أول من استخدمه فى أوروبا.
بالبلدى.. سواء كان أول احتفال بالفانوس فى الصين احترامًا لبوذا.. أو فى اليونان.. أو فى مصر فرحًا بالنجم الرابع وعيد ميلاد إيزيس.. أو جاءنا من المسيحيين الذين كانوا يحتفلون بعيد ميلاد المسيح فى «الكريسماس».. فالمؤكد أن الفاطميين حولوه إلى أغنية مصرية خالصة لا يمكن الإعلان عن قدوم شهر رمضان بدونها. وحسب دارسى الفترة الفاطمية.. فإن المعز لدين الله الفاطمى حينما أتى إلى القاهرة دخل الجيزة ليلًا.. فاستقبله أهلها بالفوانيس حتى يمر موكبه.. ويورد آخرون أنه كان يستطلع هلال الشهر بموكب تتقدمه الفوانيس، وتعود به بعد ثبوت الرؤية مع الأطفال الفرحين، فصارت عادة.. لكن المؤكد أن الحاكم بأمر الله أصدر قانونًا ليعظم فكرة إنارة المساجد بالفوانيس طيلة الشهر.. والطريف أن هناك رواية رابعة تقول إن النساء فى مصر كُن لا يخرجن من بيوتهن إلا مرة وحيدة فى السنة.. خلال ذلك الشهر. وحتى ينبه الأطفال الرجال لوجود امرأة كانوا يسبقونها بفانوس.. لكن من المؤكد أنهم كانوا لا يتغنون برمضان.
الفانوس.. ومعناه فى اللغة.. فى المعجم النمّام أو الرجل الذى يفنس.. يعنى من ناحية أخرى أنه «كشاف»، لذلك أهالينا فى الريف والحارات لا يزالون يستخدمون كلمة «كشاف» على أحد أنواع المصابيح التى تكشف ما وراء الظلام والحجب.
الفانوس.. مش هزار بقى.. ده أصله صينى.. قبطى.. فرعونى.. وأصل الغناء بالفوانيس لرمضان عربى إسلامى فاطمى.. وكل دول طلعولنا فى الأغانى.. أحمر وأخضر وأصفر زى ما بتقول غنوة الثلاثى المرح.
«يا قمر طالع.. بفانوس والع إنت حبيبى إملالى جيبى سكر أحمر وزبيب أسمر وأنا هدعيلك وفى يوم عيدك راح أغنيلك.. وحوى يا وحوى».



نوّر الله قبرك يا عمر
عمر بن الخطاب هو أول من أنار بيوت الله بالفوانيس، هذا ما نعرفه استنادا إلى كتاب «أخبار مكة»، حيث يحكى صاحبه أن سيدنا على بن أبى طالب دخل المسجد فى أول أيام رمضان والقناديل تزهر، والناس يصلون التراويح ويقرأون القرآن فقال: نور الله قبرك يا ابن الخطاب كما أنرت مساجد الله.. وينسب لابن حجر فى كتابه «الإصابة فى تمييز الصحابة» أنهم- الصحابة يعنى- كانوا ينيرون مسجد النبى بحرق سعف النخيل حتى جاء تميم الدارى، رضى الله عنه، بعد تسع سنوات ومعه قناديل وحبال وزيت فعلقها فى عواميد المسجد فقال له النبى، صلى الله عليه وسلم «نور الله قلبك كما نورت مساجدنا».

مطربة جوز الخيل تشعل القنديل
لا يعرف الكثيرون أن ابنة حارة «حوش قدم» شافية أحمد الصايغ، هى أول من غنى لفانوس رمضان.. ربما لا نعرفها أصلا، إلا إذا تذكرنا تلك الصورة الغنائية الإذاعية «الجوز الخيل والعربية.. سوق يا أسطى لحد الصبحية».. هى فتاة مصرية بسيطة أصيبت بخطف بصرها وهى صغيرة.. لكنها حفظت القرآن ولحلاوة صوتها عملت فى قراءته تجويدًا وترتيلًا بالبيوت الشعبية إلى جانب «الخياطة».. وفى الحادية عشرة من عمرها عرفت طريقها للإذاعة المصرية.. وهناك التقطها الموسيقار محمد القصبجى وألحقها بمعهد إبراهيم شفيق للموسيقى، وكانت زميلة لفايد محمد فايد ومحمد قنديل.
هذه الفتاة الصغيرة التى تحفظ القرآن، وتعيش فى حى شعبى، والتى شاركت فيما بعد فيما يزيد على ثلاثين فيلمًا سينمائيًا، وكانت تظهر فى الحفلات وهى ترتدى النظارة وتعزف على العود وابنة الشيخ «أحمد محمد عبدالقادر» من الطبيعى أن تنشد لرمضان وأن تبتهل، وأن تغنى للفانوس المصرى الذى لم يعد فاطميًا ولا صينيًا.. وبالمناسبة شاركت شافية أحمد فى أوبريت الليلة الكبيرة وهى أشهر من غنى «يا حلاوة أم إسماعيل فى وسط عيالها» مع إسماعيل شبانة، وهى أيضا صاحبة أغنية «حياة الناس سيجارة وكاس».
المطربة التى حفظت القرآن مبكرًا.. ورتلته.. من الطبيعى أن يحتفل صوتها بالابتهالات والأغنيات الدينية، ومنها «ألفين صلاة وسلام» من كلمات محمود جبر وألحان صلاح الدين محمود.
«ألفين صلاة وسلام.. يا رحمة من العلّام.. يا محطم الأصنام.. يا بهجة الإسلام».
ولرمضان غنت أيضًا من كلمات مصطفى التومى وألحان سيد مكاوى «سمعنا صوتك يا رمضان».
«سمعنا صوتك يا رمضان بينادى يا عباد الرحمن شهر النفحات كله بركات يا حلاوة الصوم.. ويا الصلواتوذكر ربى فى كل أدان سمعنا صوتك.. يا رمضان».
ولرمضان أيضًا غنت من كلمات عبدالوهاب محمد وألحان شفيق محمد «من بعد غيبة سنة».. وهو لحن كلاسيكى شرقى جدًا.
«هلت ليالى الأنس معاك من يوم ما هليت بهلالك من بعد غيبة سنة جتنا يا شهر الهنا بالسعد والغفران شرفتنا وفرحتنا».. إلخ

وإذا كانت السيدة التى تحدت إعاقتها التى حرمتها من «نور الرؤية»، فها هى تغنى لنور الفوانيس فى شهر رمضان من ألحان أحمد صدقى وهى تطلب من الناس.. كل الناس أن يشعلوا فوانيس رمضان ثلاثين ليلة كاملة «من طلعته.. ليوم عيده».
قيدو الفوانيس قيدوا.. من طلعته ليوم عيده.



ولم تكن شافية أحمد وحدها التى طلبت من المصريين أن يشعلوا فوانيسهم، فقد فعلتها شريفة فاضل لكنها حددت طلبها من الأولاد.
«قيدو الفوانيس رمضان جالكم سقّفوا يا ولاد محلى جماله هل هلاله والنور أهو زاد».

الأغنية كتبها محمد عبدالغنى السيد ولحنها أحمد حسين.. وسنحكى قصة شريفة فاضل مع أغانى رمضان لاحقا.. أما الغناء للفوانيس ومن المطربات تحديدا، فلم يتوقف عند شريفة فاضل وشافية أحمد، فهناك أغنية قديمة تعود لما قبل ثورة يوليو.. غنتها عصمت عبدالعليم وسجلتها فى الإذاعة المصرية من كلمات فتحى قورة وألحان عبدالحميد توفيق زكى اسمها «على نور الفوانيس» وأعاد غناءها كارم محمود.
«على نور الفوانيس بتهل يا رمضان ونزفك يا عريس للقلب الفرحان على نور الفوانيس».


وبعد ذلك التوقيت الذى سجلت فيه أغنية عصمت عبدالعليم وكارم محمود بعشر سنوات.. وبالتحديد فى ٦ مارس ١٩٦٠ غنت عائشة حسن من كلمات حسين السيد وألحان عبدالرءوف عيسى.. لنوع محدد من الفوانيس «فوانيس بنور».. هذه الأغنية تعيدنا إلى الأشكال والأحجام التى عرفها فانوس رمضان المصرى.. فأشهرها ذو الأربعة أضلاع والذى سموه فيما بعد فانوس فاروق نسبة إلى الملك فاروق الذى جاء بخمسمائة فانوس تحمل نفس الشكل إلى قصره احتفالًا بعيد ميلاده.. وسبقه فانوس «البرلمان» الذى سماه صُناع الفوانيس فى منطقة «درب سعادة» بذلك الاسم فى مطلع ثلاثينيات القرن الماضى لأنه يشبه شكل قبة البرلمان المصرى حينها.. أما أطول فانوس فقد صممه مصرى من الإسكندرية فى العام ٢٠١٥ وبلغ طوله ١٥ مترًا، لكنه لم يستطع أن يحوز على لقب «الأطول» المسجل باسم «لبنانى» صنعه عام ٢٠١٢ جنوب لبنان، واستغرق تصنيعه ١٨٠ يومًا وبلغ طوله ١٨ مترًا، ونقلته ست شاحنات إلى ملعب شهير بجنوب لبنان ليراه العالم كله.
المهم أن عائشة حسن حددت نوع الفانوس الذى غنت له أنه مصنوع من «البنور».
«داير ما يدور.. فوانيس بنور فوق المادنة بتهنى حبيبى.. فى الشام وقريب إيده فى إيدنا ومنين ما نروح.. تلقى الزينة إعلام وكهارب حوالينا».
ومن الواضح أنها إحدى الأغنيات التى كانت تدعم فكرة الوحدة مع سوريا.. وبانتهاء تلك الوحدة اختفت أغنيات كثيرة كانت أغنية عائشة حسن إحداها.
أهل الشام الذين استدعتهم عائشة حسن فى أغنيتها بادلوها حبًا بحب.. وغناء بغناء فمن ألحان محمد جمال غنى مع زوجته طروب لكل ألوان الفوانيس.. الأغنية كتبها على السوهاجى.
«نور يا فانوس أحمر وأخضر مع بابا وماما إحنا هنفطر ونغنى كمان.. وحوى يا وحوى يا فانوس رمضان.. وحوى يا وحوى يلّا الغفار».
وفى الأغنية تمارس الزوجة ولعها.. وتؤكد أنها مثل الأطفال تريد فانوسًا من حبيبها وهو الأمر الذى صار عادة مصرية خالصة فيما بعد.. فأى خطيب لا بد أن يذهب إلى دار عروسه أول أيام رمضان ومعه «الموسم».. والفانوس.
«بتهزرى ولا حقيقة هوه إنتى لسه زغنطوطة ما خلاص يا حلوة إنتى كبرتى».
وقطعًا لم تكبر طروب التى لم تكتف بمشاركة زوجها فى الغناء لرمضان فغنت بمفردها وباللهجة اللبنانية من كلمات ميشيل طن.
«وحوى يا وحوى يا ناعم يا منمنم لا تحاكينى نحوى نحوى لا بافهم وإن كان عندك مدرسة تا اجى اتعلّم».
ولمن لا يعرف طروب.. فهى من مواليد دمشق.. عاشت طفولتها فى عمان بالأردن، ثم انتقلت للإقامة والعمل فى بيروت وعرفها الناس فى أغنيات ليلى مراد وبخاصة «سنتين وأنا أحايل فيك»، وبعدما تزوجت من محمد جمال الذى مثل وغنى فى فيلم «الأرملة الطروب» مع كمال الشناوى جاء العروسان للقاهرة وشاركا فى أحد حفلات أضواء المدينة ليعرفهما العالم العربى كله. فشاركت مع سعاد حسنى ورشدى أباظة فى أحد الأفلام.. ثم مع إسماعيل ياسين فى فيلم «العقل والمال» وتنتشر أغنياتها «يا صبابين الشاى» و«يا حلاق اعمل نمرة».
ومن أغنيات طروب لرمضان.. ولكن بمفردها هذه المرة.. من كلمات عبدالله أحمد عبدالله «ميكى ماوس» وألحان سيد إسماعيل.
«الدنيا عروسة وجيت يا عريس والكون حواليك شمع وفوانيس من أول يوم نستنا النوم وحبايبك عايمة فى خيرك عوم والمغرب يدّن بعد الصوم نتمنى تزيد مش تنقص يوم والكون حواليك شمع وفوانيس».
وتعرف الطريق حتمًا إلى الإذاعة المصرية وأغنيات رمضان وأشهرها «نور يا فانوس أحمر وأخضر».
https:

المارد الذى ظهر فى كفر أبوجندى
لا يمكن حصر الأغنيات التى استلهمت أسطورة فانوس رمضان مع بنات وأولاد مصر.. لكننا حتمًا سنتوقف أمام أشهر تلك الأغنيات.. وربما يكون من الغريب أن تكون لثلاثة من الأشقاء.. جمعتهم الطفولة فى بيت مزارع مصرى من كفر أبوجندى بمدينة طنطا.. علمهم حب قراءة القرآن جميعهم. فالأب الذى كان يمارس قراءة القرآن بالمجان فى المآتم والمناسبات الخاصة لأهل قريته.. لم يمنعه زواجه من خمس نساء وإنجابه لـ٢٥ طفلًا يعيشون فى بيت واحد، من أن يهتم بتعليمهم وأن يحرص على أن يرتبط جميعهم بالقرآن الكريم، فأتى لهم بقارئة اسمها مبروكة تقول هدى سلطان عنها إنها كانت «الأعذب صوتًا».. وإذا كنا لا نعرف شيئًا عن الشيخة مبروكة هذه.. إلا أننا نعرف محمد فوزى وهند علّام وهدى سلطان.. والثلاثى من أهم الأسماء التى مرت فى تاريخ الأغنية المصرية.

يا رب وقت السحر
نعرف أن محمد فوزى هو أحد المجددين الكبار فى عالم الموسيقى المصرية.. هو ثالث المجددين بعد سيد درويش ومحمود الشريف.. وبسبب رغبته فى التجديد أوقفت الإذاعة المصرية التعامل مع موسيقاه، بعد اعتماده مطربًا وملحنًا فى فترة مبكرة من عمره.. وظن البعض أن الإذاعة منعته أو رفدته حسب بعد كتابات المؤرخين، لكن الأمر لم يتعد كون أن الإذاعة لم تقم بتكليفه بأغنيات جديدة عقب تقدمه بلحن أغنية «يا نور جديد» التى ظلت حبيسة الأدراج لمدة عشر سنوات كاملة، حتى ظهرت فى أحد أفلامه ومن بعدها أصبحت ولما يزيد على خمسين سنة، الأغنية الأشهر احتفالًا بأعياد الميلاد.
رغبة فوزى المبكرة فى التجديد والابتكار لصيقة بطبيعته المتمردة. فهو ابن مزارع مصرى من كفر أبوجندى بطنطا.. أمضى وقتًا من عمره فى اللف حول المطربين الشعبيين فى الموالد، وأشهرها وأقربها إليه إبراهيم الدسوقى.. وقبل أن يتم الخامسة عشرة من عمره، كان قد اصطدم بطموحات والده التى كانت تؤهله لمستقبل آخر.. مما اضطره لترك طنطا بحالها والمجىء للقاهرة التى عاش لسنوات فى حواريها وأزقّتها الضيقة ينتقل من ملهى إلى آخر.. ومن كازينو إلى آخر.. ومن حجرة فى بنسيون برفقة راقصة- قيل إنه تزوجها فى السر اسمها لولا- إلى نجاح غير مسبوق بعد ذلك، بعد ترك الراقصة وعالم الملاهى، وعندما ترك كازينو بديعة كوّن مع لولا فرقة طافت معظم أنحاء مصر تتشبع بروح الريف المصرى، ثم أتاحت له طبيعته المتمردة تلك التعامل مع الموسيقى الغربية بجميع أشكالها.. النشأة الدينية والشعبية لم تفارق فوزى بعد أن أصبح رقمًا فى عالم السينما والغناء.. وساعدته خفة دمه فى الاقتراب من عالم الأطفال الذى كان يستهويه.. تلك التركيبة الرائعة لم تخل من صراحة فى بداية وفى نهاية رحلته.. اعترف فوزى بأخطائه فى البدايات.. واعترف بخطيئته مع الراقصة.. ودعا ربه أن يسامحه.. وعاد إلى نزعته المتدينة لينهل من خزينها فى مجموعة من الأغنيات الدينية من أشهرها ما كتبه عبدالفتاح مصطفى.
«يا رب وقت السحر تتكلم العبرات وتسلم الدعوات على السبع سماوات.. يا غافر الزلات.. يا ساتر الهفوات العفو والمغفرة.. اصفح عن اللى فات».
بهذه الروح دخل فوزى إلى قلوب محبيه.. تدثر بسيرته الأولى فى بيت والده الشيخ.. وبالفلكلور الشعبى.. وروحه المرحة وبكلمات عبدالعزيز سلام:
«يا صايمين النبى قال.. الصيام جنة فيها النعيم والثواب يا رب نولنا».
عبدالعزيز سلام نفسه.. وهو الذى كتب لفوزى «دارى العيون».. وهو نفسه من كتب واحدة من أشهر أغنيات رمضان التى تتحدث عن الفوانيس التى استهلها فوزى بالصفافير مثلما فعل على إسماعيل.
«هاتوا الفوانيس يا ولاد.. هاتوا الفوانيس هنزف عريس يا ولاد.. هنزف عريس هيكون فرحه تلاتين ليلة.. هنغنى ونعمل هليلة.. هنشبع من حلوياته.. هاتوا الفوانيس يا ولاد.. هاتوا.. هاتو الفوانيس».

لحن فوزى الشيك أعاد الأطفال إلى عالم رمضان.. جعلهم جزءًا أساسيًا من اللحن كما هى عادته فى أغانى الأطفال.. وكعادته أيضًا لم يحصل فوزى على أجر من الإذاعة عن أغنيته التى لا تشعر ببهجة رمضان بدونها، وبدون عالمها الذى يشرح أحد طقوس الشهر الكريم.
«م العشا راح تتلم صحابنا ونروح كل مكان.. ونغنى على نور فوانيسنا آه يا بنت السلطان».
ابنة السلطان نفسها التى سبق وغنينا لها وحوى تحولت إلى «عادة» ومثلها مثل فانوس رمضان الذى غنى له فوزى وشقيقتاه دونما اتفاق.. فرغم أن فوزى أحد أهم ملحنى مصر وأشهرهم، إلا أنه لم يفكر فى التلحين لأخته «هند علام» وهو اسم شهرتها حيث إن اسمها الحقيقى «زوز» سوى مرة واحدة.. ولم تكن أغنيتها لرمضان وللفوانيس من ألحانه.. والغريب أن فوزى كان يرفض دخولها عالم الغناء أصلًا رغم قدراتها الصوتية الهائلة.. وبرر فوزى ذلك بأنه كان يخشى على شقيقتيه من «الوسط الفنى» ومشاكله.
عمومًا كان أحمد صدقى هو أول من تبنى صوت هند علام التى عملت فى بداية حياتها «خياطة».. وتم اعتمادها بالإذاعة المصرية فى عام الثورة.. وقدمت أكثر من ثلاثين أغنية أشهرها «بلاش عتاب» من ألحان فريد غصن، و«آه يا أسمرانى اللون» وشاركت فى بطولة أربعة أفلام سينمائية أحدها هو فيلم «ليالى الحب» مع عبدالحليم.. وإضراب الشحاتين الذى قدمت من خلاله دور المطربة «منيرة المهدية».
هند علام غنت لرمضان وللفوانيس أغنية وحيدة اسمها «قيدو الفوانيس».
«يالا صغار قيدوا الفوانيس شهر الأنوار للفرح جليس ونقول وحوى.. إياحه وحوى يا وحى.. إياحه وكمان وحوى.. وحوى يا وحوى.
ده هناه أسرار والسعد أنيس يلّا يا صغار قيدو الفوانيس ونقول وحوىوكمان وحوى..».
أغنية هند علام كتبها عزالدين عيسى ولحنها فؤاد حلمى.


الأخت الثالثة التى صارت واحدة من أشهر نجمات السينما والغناء، والتى صار اسمها هدى سلطان.. والتى تحدت جميع أفراد أسرتها وخاصمت فوزى نفسه لرفضه عملها بالفن.. والتى لم يصالحها إلا بعد أن تزوجت من فريد شوقى واطمئنانه أنها ستكون فى بيت آمن.. مما جعله يلحن لها فيما بعد الست هدى أو «بهيجة حبس الحو» لم تكن بعيدة عن احتفالات المصريين بشهر رمضان، فصوتها الذى منحه لها الله.. «شعبى بطبعه» و«بيتى جدًا».. وقريب من الأطفال وهذا ما لفت نظر الملحن السورى محمد ضياء الدين الذى عرفناه من أغنية الأطفال «البالونة».. وهو والد الموسيقار الشاب محمد ضياء الدين.. ضياء الكبير كلفته الإذاعة بتلحين نص كتبه محمد على أحمد.. وفوجئ مسئولو الإذاعة بضياء يطلب أن تغنيه هدى سلطان.. فرفضوا فى البداية وأمام إصراره وافقوا «إلى حين»، بمجرد سماع اللحن وافقت هدى سلطان:
«يا ولاد حارتنا.. اتلموا اتلموا شوفوا رمضان وخفة دمه هاتوا الفوانيس بيضا ولامعةوفى كل فانوس.. ولعوا شمعة النور هيلم على سكتنا والشر هيطلع من بيتنا».

رحل محمد فوزى.. ورحلت هدى سلطان.. وهند علام أيضًا وبقيت أغنياتهم للفوانيس ولرمضان.. حبة فى سبحة مصرية خالصة تسبح بحمد الله وبنعمته وبأفضال شهره الكريم.. تنتقل من يد إلى أخرى.. ومن حنجرة إلى أخرى.. ويكشف نور شموعها غبش وظلمة كل الأفكار التى استوردها أولئك الظلاميون من بلاد لم تغن أبدًا لرمضان وخفة دمه.