رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«ربك رب قلوب 3»..

أيمن الحكيم يكتب: نصف الشيخ عبدالباسط الآخر.. تزوجها وعمره 19 سنة وأنجبت له أحد عشر كوكبًا

جريدة الدستور

- رُزق بعد زواجه بـ٣ بنات فطالبته أسرته بأن يتزوج ثانية لإنجاب ذكور لكنه رفض
- قامت بدور الممرضة أثناء وعكته الصحية الأخيرة فكانت تجلس بجواره ساعات الليل والنهار

قبل أن يهل هلال هذا الشهر الكريم بأربعة أشهر رحلت نصف الشيخ عبدالباسط عبدالصمد الآخر، زوجته ورفيقة رحلته وأم أولاده، المرأة الأولى والأخيرة فى حياته، والشاهدة على رحلة صعوده منذ أن كان شابًا يقرأ فى سرادقات العزاء فى «أرمنت»، إلى أن صار نجمًا فى سماء التلاوة وواحدًا من أجمل الأصوات التى قرأت كتاب الله، منذ أن تنزل على نبى الإسلام وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
كان الشيخ عبدالباسط «المولود سنة 1927» هو الثالث فى ترتيب أشقائه الأربعة، وكان عمره 19 سنة فقط عندما ذهب إلى والده يطلب منه أن يزوجه، وكان الزواج المبكر من العادات الراسخة فى الصعيد للبنات والرجال على السواء، فرشحوا له ابنة عمه «رسمية»، وكانت تصغره بثلاث سنين، فتزوجها على سنة الله ورسوله، وعاش معها فى بيت الأسرة بقرية «المراعزة»، ورزقه الله منها ثلاثًا من البنات، وهو أمر أثار قلق الأسرة الصعيدية التى ترى فى إنجاب الذكور «عزوة» لا غنى عنها، فاقترحوا عليه أن «يغيّر عتبته» ويتزوج بمن تأتى له بالعزوة وزينة الحياة الدنيا، لكنه رفض بحسم: «الذرية رزق.. واللى يجيبه ربنا كويس».
كان المقرئ الشاب يومها مشغولًا بما هو أهم من «الخِلفة»، كان طموحه قد تخطى الصعيد، وبدأت عيونه تتجه نحو «المجد» فى القاهرة، ولما ذاع صيته فى العاصمة، وبدأت الدعوات تنهال عليه، ووجد نفسه يقرأ فى مسجد السيدة زينب وفى الإذاعة الرسمية، فإنه حمل طموحه وجاء ليستقر فى شقة متواضعة بجوار المقام الزينبى، وجاءت أسرته من الصعيد لتستقر معه، ولما ضاقت بهم شقته الصغيرة انتقل إلى شقة أوسع فى «المنيل»، وفيها رزقه الله بابنيه التوأم «محمد» و«جمال»، فانتقل إلى شقة أكثر اتساعًا فى «الروضة»، أنجبت له فيها زوجته ابنه الثالث «خالد».. وفى شقة «جاردن سيتى» رزقه الله بولده الرابع «طارق»، لواء الشرطة، والمقرئ الموهوب فيما بعد الذى ورث عن والده حلاوة الصوت والأداء.
ووصل عدد أبناء الشيخ عبدالباسط من البنين والبنات إلى الرقم 11 أو «أحد عشر كوكبًا» بتعبير اللواء طارق.. ولما لم تكن هناك شقة تستوعب هذا العدد، فقد كان الحل هو شراء «فيلا» فى العجوزة، أضاف لها «مضيفة» مستقلة لاستقبال وإقامة ضيوفه الدائمين من الصعيد.
ولم يكن خيارًا بل إجبارًا أن تتفرغ «أم محمد» لإدارة شئون البيت ورعاية الأسرة طوال الليل والنهار، تستيقظ فى السادسة لتجهز أولادها للمدرسة، وفى التاسعة يكون عليها أن توقظ زوجها وتجهز له إفطاره وتشرف على مظهره قبل خروجه، ثم تبدأ التجهيز للغداء واستقبال الأبناء ومتابعة دروسهم، وإذا كان الشيخ لديه حفل فى الليل لا تنام إلا بعد أن تطمئن لرجوعه وتجهز له العشاء حتى لو تأخر إلى «وش الفجر»، فلم يكن الشيخ يأكل إلا من يديها.
يحكى لى اللواء طارق عبدالباسط أنه رغم انشغالات والده المستمرة والدائمة إلا أنه كان حريصًا على متابعة أولاده فى دراستهم، ويفاجئهم بزيارتهم فى المدرسة، وكان قد ألحقهم بمدرسة «العجوزة» الخاصة، وكان يدرس فيها أبناء المشير عامر ومنى ابنة الرئيس عبدالناصر، وكان يتهلل فرحًا عندما يأتى التلاميذ الصغار للسلام على الشيخ الذى يسمعونه فى الإذاعة ويشاهدونه على الشاشة.
وبسبب «التنسيق»، وافق الشيخ على أن يرسل ولديه التوأم «محمد و«جمال» إلى لبنان للدراسة فى جامعة بيروت العربية، وفى أول سنوات الدراسة سافر إلى بيروت للاطمئنان على أحوال ولديه، وربما لأنه يشعر بالذنب تجاه زوجته التى لا تغادر المنزل اصطحبها معه إلى بيروت، ونظم لها جولة لزيارة معالم لبنان وأماكنها السياحية الشهيرة، ورافقته كذلك فى رحلة حج «جماعية» سافر فيها بصحبة صديقيه، مصطفى إسماعيل وأبوالعينين شعيشع، فقد تلقوا دعوة لتسجيل القرآن فى المملكة، وكان من بين كرم الدعوة أداء مناسك الحج ومعهم زوجاتهم.
ورغم أن الشيخ عبدالباسط ارتبط بصداقات واسعة مع نجوم المقرئين فى زمنه ومن كل أجيالهم، خاصة شعيشع والحصرى ومصطفى إسماعيل والطبلاوى فى وقت متأخر، وكانوا يزورونه كثيرًا فى فيلته، ويطلبون أكلات معينة من تلك التى تجيدها زوجته وذاعت صيتها فيها، خاصة «الملوخية بالأرانب» و«الحمام بالفريك»- فإن «الحاجة أم محمد» نفسها كانت نادرة الصداقات مع زوجات المشايخ، بحكم انشغالها الدائم فى شئون بيتها، وربما كانت الأقرب إليها هى زوجة الشيخ «الرزيقى».. فقط لأنها صعيدية مثلها.
وفى حين كان الشيخ عبدالباسط متعدد الهوايات والاهتمامات، فقد كان سمّيعًا من الدرجة الأولى للغناء العذب، ومن عشاق أم كلثوم، وذهب مرة لحضور حفل لها بدار الأوبرا وهو يرتدى عمامته وزيه المميز، وكان عبدالوهاب من أقرب الأصوات الرجالية إليه، وكثيرًا ما كان يلتقيه فى مناسبات عامة فيحتضنان كأصدقاء، وكانت تعجبه كذلك أصوات وديع الصافى وصباح فخرى ونجاح سلام، وقبلهم فريد وحليم.. وفى عقد قران ابنته لم يجد الشيخ غضاضة من أن يغنى يومها عبداللطيف التلبانى ومحمد العزبى.. كما كان من محبى كرة القدم ومن مشجعى نادى الزمالك، ويرتبط بصداقة شخصية مع نجم الزمالك ورئيس النادى الشهير الكابتن «محمد حسن حلمى»، الذى صمم مرة، إكرامًا لصديقه الشيخ، على أن يكون حفل زفاف ابنيه «جمال وخالد» فى قاعة داخل نادى الزمالك.. وفى الوقت نفسه كان الشيخ صديقًا لصالح سليم والفريق مرتجى فى النادى الأهلى، ويزورهما أحيانًا ويرحبان به رغم ميوله الزملكاوية.. نقول رغم هذا الانفتاح على الحياة، فإن الشيخ عبدالباسط نفسه كان هو «الهواية» الوحيدة للزوجة المخلصة ومحور حياتها وكل اهتماماتها، فقد كانت دنياها تبدأ وتنتهى عنده.
وقد تضاعف اهتمامها وزاد بعد أن أصيب زوجها بمرض السكر، وأجرى جراحتين لاستئصال «المرارة» و«الزائدة»، وأجبره الأطباء على نظام غذائى صارم لا تهاون فيه.. وبعد أن كانت «صوانى اللحم الضانى» هى الأكلة المفضلة للشيخ، التى تمنحه الطاقة اللازمة للقراءة المتصلة، دخل الشيخ فى مرحلة «الأكل المسلوق»، ولم يؤثر ذلك على حلاوة صوته وقوته، فظل عفيًا وقويًا، وذات مرة تعطل الميكروفون وهو يقرأ فى مسجد الإمام الشافعى، وبهدوء أزاحه الشيخ جانبًا وقرأ دونه، فكان صوته يرج جنبات المسجد الواسع.
ويحكى لى طارق عبدالباسط هذا الموقف الذى تتجلى فيه محبة والدته لوالده: «كان والدى هو مقرئ العرض العسكرى فى 6 أكتوبر 1981، وأصر الرئيس السادات على وجوده، وكانت والدتى معنا فى البيت تتابع العرض، فلما اطمأنت على قراءة والدى وعلى مظهره تركتنا ودخلت المطبخ، وفجأة انقطع الإرسال، وعرفنا بما حدث فى المنصة، وقررنا أن نخفى عنها الموضوع، وعشنا ساعات من حرق الأعصاب على الوالد الذى كان قريبًا من الرئيس ومن ضرب النار، حتى جاءنى صوته عبر التليفون يخبرنى بأنه بخير وأنه لدى صديق له فى «العتبة»، ويريدنى بسرعة أن أحمل إليه ملابس جديدة بدلًا من التى يرتديها، وشهدت معه الأحداث الدموية.. وسألتنى والدتى بدهشة عندما شاهدتنى أحمل ملابس والدى: فيه حاجة حصلت؟.. واضطررت لأن أحكى لها أن الوالد نجا من الموت بأعجوبة، وكاد قلبها يتوقف، ولم تهدأ إلا بعد أن عاد للبيت».
وسافر بعدها وهو معتل الصحة ليحيى ليالى رمضان فى الكويت، فكانت قلقة عليه طوال الوقت، خاصة أن الاتصالات وقتها لم تكن ميسرة كحالها الآن، فكانت تظل إلى الفجر بجوار جهاز الراديو المضبوط على إذاعة الكويت، ولا يهدأ بالها إلا بعد أن يأتيها صوته يصدح بقرآن الفجر.
ولما مر الشيخ بمحنة مرضه الأخير، وسافر إلى لندن بصحبة طارق، فإنه عاد من مستشفى «كرومويل» إلى بيته، وعندها قررت الزوجة أن تقوم بدور «الممرضة» للشيخ، فكانت بجواره ساعات الليل والنهار، تناوله أدويته وتساعده فى تناول طعامه، وكانت مستعده أن تفديه بروحها، إلى أن فاضت روحه فى 30 نوفمبر 1988.
عاشت الزوجة بعده على ذكراه، وظلت حتى رحيلها، فى يناير الماضى 2019، محتفظة بذاكرتها القوية، ولا تمل من الحديث عن ابن عمها وحبيب عمرها، وعن ذكرياتها الكثيرة والطويلة معه، رغم أنها لم تكن تغادر جدران البيت إلا نادرًا، فقط فى رحلتى الشتاء والصيف، كما كانت تطلق عليهما، فى الشتاء لقضاء أسبوع فى زيارة أهلها فى الصعيد، وفى الصيف لقضاء إجازة قصيرة بالإسكندرية بصحبة زوجها وأولادها.
فى شقة المهندسين القريبة من مسجد مصطفى محمود، الشقة نفسها التى انتقل منها زوجها، عاشت «الحاجة رسمية» مع «ريحة الحبايب»، وأحيانًا كانت تنتقل إلى العجوزة فى ضيافة أولادها، ثم سرعان ما تعود إلى «بيت الشيخ».. أدت العمرة مرة بصحبة بناتها وابنها طارق، لكن ظل صوت الشيخ عبدالباسط هو «ونسها» الدائم، تسمعه فى كل وقت، وتدعو الله أن يُلحقها به «لتخدمه» فى الجنة لأنها تعرف أنه لا يأكل إلا من يديها.