رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«ولي ومريد 3»..

الحلاج.. شهيد العشق الإلهى


لا نزال مع الحلاج، ذلك الذى حارت فيه البرية، فهل جاء الوقت لكى نشفق عليه؟ ولكننى أود أن أطرح سؤالًا عليكم: هل يستطيع أحدكم أن يتحكم فى سلطان الحب إذا ما تملَّك فؤاده؟ نستطيع إذا دخل الحب إلى قلوبنا قطرة قطرة مثل قطرات الندى، ولكن ليس فى قدرة إنسان أن يسيطر على حب إذا اجتاح قلبه كالفيضان، وقتئذ لن يكون لدى هذا المسكين قلب فى صدره، ولا حُب فى قلبه، ولكن سيكون هناك قلبٌ فى حبه!
أظنكم تعرفون قصة قيس بن الملوح الذى لقبوه بمجنون ليلى من فرط حبه لها، ما لنا وقد أشفقنا على قيس ولم نشفق على الحلاج، فقيس أحب مخلوقًا، أما الحلاج فقد أحب الخالق، قيس كتب فى ليلى: أرانى إذا صليتُ يممتُ نحوها بوجهى وإن كان المُصلى ورائيا... وما بى إشراكٌ ولكن حبها وعظم الجوى أعيا الطبيبُ المداويا.
هذا قيس وهو يعانى من حبه لليلى حتى دخل عقله فى سكرات لم يفق منها، ومما يُروى عن قيس أنه كان فى طريقه فى أحد الأيام إلى ليلى حيث سيلتقى بها بعيدًا عن العيون، فمرّ على رجال من قبيلته يجلسون أمام دار أحدهم، وقد دخلوا فى صلاة الجماعة، وبعد ساعة مرّ قيس عائدًا أمامهم، فسألوه: لمَ لم تدخل معنا فى الصلاة يا قيس؟ فقال لهم: أفرأيتمونى؟ قالوا: نعم، فقال لهم: عجبتُ منكم، كنت فى طريقى إلى محبوبتى فلم أركم، وكنتم بين يدى محبوبكم فرأيتمونى!.
ويعرف بعضنا أن الحلاج كتب قصيدة فى عشق الله، قال فيها:
«أنا من أهوى ومن أهوى أنا
نحن روحان حللنا بدنا» يا الله!!، سنغضب بشدة ونقول كيف يزعم هذا الرجل أنه والله روحان حلا بدنًا واحدًا، ما هذا الكفر! ولكن لننتظر دقيقة، فمِن هذه القصيدة كتب أمير الشعراء أحمد شوقى يرثى أباه قائلًا: «أنا من مات ومن مات أنا.. لقى الموتَ كلانا مرتين نحن كنا مهجة فى بدنٍ.. ثم صرنا مهجة فى بدنين».. فهل كان شوقى يقصد أنه هو الذى مات، وأنه ووالده كانا قلبًا واحدًا فى جسد واحد؟ هذا شعر يُحاكم بميزان الشعر، أو قل بموازين القلوب، لا بمعايير العقول.
ولكن الناس حاكموا الحلاج بميزان الشريعة وليس بميزان الشعور، طبقوا عليه ما يقال فى الحلال والحرام والكفر والإيمان، وتصيدوا من كلماته ما يشاءون، والأمر كان غير ذلك تمامًا، فقد تحكم سلطان العشق فى قلبه، ولم تكن هناك لغة تستطيع أن تشرح مشاعره وعشقه، لم يفهم من حاكموه أن للعشاق لغة لا تخضع للمحاكمات الدينية، وللتصوف قاموسه اللغوى الخاص به الذى يختلف عن قواميس الناس، لم يفهموا شعره الذى قال فيه «عيون العاشقين لها عيون ترى ما لا يراه الناظرونا وأجنحة تطير بغير ريش إلى ملكوت ربى العالمينا».. قلوب العاشقين لا تعرف المنطق، وعيونهم ترى ما لا يراه باقى الناس.
ولهفى عليك يا حلاج، وأنت تكتب أجمل ما كتبه إنسان فى العشق الإلهى: «والله ما طلعت شمس ولا غربت إلا وحبك مقرون بأنفاسى... ولا خلوت إلى قوم أحدثهم إلا وأنت حديثى بين جلاسى.. ولا ذكرتك محزونًا ولا فرحًا إلا وأنت بقلبى بين وسواسى.. ولا هممت بشرب الماء من عطش إلا رأيت خيالًا منك فى الكاس.. ولو قدرت على الإتيان جئتكمُ سعيًا على الوجه أو مشيًا على الراس».. ثم يختم الحلاج قصيدته بقول فصل هو «دينى لنفسى ودين الناس للناس».
وذات يوم بعيد أمسكت كتابًا يحكى عن محاكمة الحلاج، فصعقتُ من الذى حدث، وأخذت أبحث فى عشرات الكتب والمراجع عن تلك المحاكمة التى لا نظير لها فى تاريخنا، ويا لهف قلبى عليك يا حلاج، ما هذه القسوة والدموية التى أنزلوها عليك؟! أيمكن أن يصل إنسانٌ فى وحشيته إلى هذه الدرجة؟! يعلم الله أننى أكتب لكم هذه الكلمات وقلمى يرتجف، وقلبى ينتفض، ولكننى سأحاول ما وسعنى الجهد أن أحكى لكم ما حدث.
حاكم الخليفةُ العباسى «المقتدر بالله» صاحبنا الحلاج أكثر من مرة، لذلك استمرت محاكمته سنوات، سُجن فيها وجُلِدَ وعُذِّبَ، أما الشهود الذين شهدوا ضده وطالبوا برأسه فكانوا علماء الدين المقربين من الخليفة العباسى، وكانت التهمة هى أنه ادعى الربوبية، فرد عليهم الحلاج «أعوذ بالله أن أدعى الربوبية أو النبوة، وإنما أنا رجل أعبد الله وأكثر له الصوم والصلاة وفعل الخير، لا أعرف غير ذلك‏، سبحانك لا إله إلا أنت، عملت سوءًا وظلمت نفسى، فاغفر لى إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت»، وكان قاضى هذه المحكمة هو القاضى الشافعى «ابن سُريح»، فأمر بإطلاق سراح الحلاج وقال إن «الأدلة غير ثابتة، ولا يوجد عليه دليل».
ولكن لم تتوقف آلة القتل، فهى تدور وتدور وتبحث عن رأس تقطعه وعن دم تشربه باسم الدين، فكان يجب أن يخضع الحلاج لمحاكمة ثانية، وعُقدت المحاكمة، ولم يثبت فيها أى شىء ضد الحلاج، فذهب القضاة إلى الوزير حامد بن العباس يشكون له أنهم لم يجدوا ضد الحلاج شيئًا وأن الجماهير تتعاطف معه، فيذهب الوزير إلى الخليفة، فيأمر الخليفة بعقد مناظرة بين الحلاج وعالم بغداد الشهير «على بن عيسى» لعل الحلاج يقع فى خطأ ما فيُصطاد منه، ولكن عالم بغداد يتهيب من المناظرة ويطلب إعفاءه منها، ويظل الحلاج فى السجن سنوات، وازدادت شعبيته بين العامة، إلى أن انعقدت المحاكمة الكبرى له أمام القاضى أبوعمر، وبعد حوار وأخذٍ ورد، رد الحلاج على أحد الاتهامات فقال له القاضى كذبت يا حلال الدم، فعرف الحلاج أنهم أحلوا دمه، فقال: «دمى حرامٌ، وما يحل لكم أن تتأوَّلوا علىّ، واعتقادى الإسلام، ومذهبى السنة، فالله الله فى دمى»!.
ولكن الحكم كان قد صدر، فجىء به ليُصلب، ورأى الخشب والمسامير فضحك كثيرًا، ثمّ التفت إلى القوم طالبًا سجادة ليفرشوها له، فصلّى ركعتين وتلا آيات من القرآن، ثم قال: «يا الله هؤلاء عبادك قد اجتمعوا لقتلى! تعصبًا لدينك، وتقربًا إليك، فاغفر لهم، فإنك لو كشفت لهم ما كشفت لى، لما فعلوا ما فعلوا، ولو سترت عنى ما سترت عنهم، لما ابتُليتُ بما ابتُليت، فلك الحمد فيما تفعل، ولك الحمد فيما تريد» ثم صلبوه وجلدوه ألف جلدة، ثم أنزلوه من الصليب، وجاء الجلاد فقطع يده اليمنى، ثم يده اليسرى والحلاج ينظر إلى قاتله دون أن يُبدى ألمًا، وكأنه ذهل عن الدنيا، ثم تركوه ساعات على الأرض إلى أن حملوه مرة أخرى على الصليب.
وفى اليوم التالى، قطعوا قدمه اليمنى ثم اليسرى، وهو يقول: «إلهى إنك تتودد إلى من يؤذيك، فكيف لا تتودد إلى مَن يؤذى فيك»، واستمروا فى تعذيبه ووجهه يصفر ويشحب، إلى أن قطعوا رأسه ثم قاموا بالتمثيل بجثته، ولا يزال إلى الآن من يريد صلب الحلاج ألف مرة، وقتله آلاف المرات، ولكن الحلاج عاش، وظل ذكره بين الناس، ونسيت الدنيا الخليفة المقتدر بالله، ووزيره حامد بن العباس، وقاضيه أبوعمر، وجلاده، ومن قطعوا رأسه وأحرقوا جسده.. عاش الحلاج بالحب، وماتوا هم بالكراهية، ألم يقل الحلاج: الناس موتى وأهل الحب أحياءُ؟.