رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إسلاميات كاتب مسيحى «٣»..

محمد الباز يكتب: الشيخ البخارى.. السر الذى دفع نظمى لوقا لإنصاف النبى محمد

جريدة الدستور

- والده أراد له أن يحفظ القرآن حتى يصبح خطيبًا مفوهًا مثل مكرم عبيد من
- تعلم كنوز البلاغة العربية وعرف أسرارها على يد أحد تلاميذ الإمام محمد عبده

من حقك أن تسأل عن الذى دفع مفكرًا وفيلسوفًا مسيحيًا إلى إنصاف الإسلام.
عن الذى قاد نظمى لوقا إلى أن يقف فى صف الحقيقة، حتى لو خاصمت أو عاندت ما استقرت عليه عقيدته، فهو لم ينصف النبى محمدًا بكتابه «محمد الرسالة والرسول» فقط، ولكن بكتب أخرى كان فيها منحازًا لرجالات الإسلام.
يمكننى بسهولة أن أجيبك بأنه فيلسوف يعتنق مذهبًا يدفعه إلى التجرد الكامل، نظر إلى الإسلام على الأرض بتجلياته وآثاره، ما جعله ينحاز إلى قيمة هذا الدين وقيمة رسوله، فقال ما قاله فيه، دون أن يجره هذا إلى أن يترك دينه، فقد كان على يقين، بأنه ليس معنى أن الإسلام حق أن المسيحية باطلة.
هذه الإجابة رغم أنها يمكن أن تكون مرضية جدًا، لكنها فى النهاية طواف بعيد عن كعبة الحقيقة، وسعى بين جبلين لا علاقة لهما بما جرى، ووقوف على قمة بعيدة تمامًا عن الهدف.
لقد عرف نظمى لوقا الإسلام على الأرض.
اقترب منه وشعر بما يمثله وهو طفل صغير، وكانت كلمة السر فى هذه المعرفة هى الشيخ عبد الله البخارى.
يقودنا نظمى إلى شيخه ومولاه.
كيف كان اللقاء بينهما؟
سأتركه يحكى لكم، فعندما تفتح كتابه «محمد الرسالة والرسول» وتحت عنوان «صبى فى المسجد»، ستجده يقول: «صبى قصير، نحيل، عصبى الملامح، واسع العينين، تطل منهما نظرة تطلع، وفى ثيابه إهمال، وفى يديه آثار حبر، ورباط حذائه مرسل يكاد يتعثر به وهو يمشى، وسنه لم تتجاوز السادسة إلا قليلًا».
هذه هى هيئة الطفل نظمى لوقا صاحب الست سنوات كما وصفها هو.
يمكنك أن ترسم له صورة من خلالها، لكن تمهل قليلا، فهو لم يصف نفسه بهذا، إلا وهو يتهيأ للقاء مصيرى.
يقول إنه كان «يقطع الطريق جادًا مسرعًا بعد صلاة العصر بقليل إلى مسجد السويس، قريب من مبنى المحافظة بها، لا يلوى على شىء، ويتمهل الفتى عند دكان الحلاق الذى يواجه المسجد، ليرى الشيخ جالسًا، بقامته المفرطة فى القصر، وجبهته المفرطة فى العلو، وبشرته البيضاء المحمرة، وثيابه النظيفة الناصعة، ولحيته الصهباء التى يخالطها بياض كثير».
إذا كنت قريبًا من هذا المشهد، فسترى أن الفتى يقرئ أستاذه الشيخ السلام، ويهش الشيخ للقائه، ويده تداعب ساعة جيبه الكبيرة المصنوعة من المعدن، يفتحها ثم يتحسس عقاربها، ويغلقها ثم يعيدها إلى جيب قفطانه الأبيض، وترتسم على وجهه ظلال ابتسامة، يكاد الفتى يراها فى موضع عينى الشيخ، لولا أن هاتين العينين أغلقهما مرض فى الطفولة الباكرة إغلاقًا أبديًا.
المشهد لا يزال يتواصل.
الشيخ الكفيف يتأبط ذراع الصبى، ثم يدب بعصاه عبر الشارع، والصبى لا يخطئ نظرات الفضول من الحلاق وزبائنه وعابرى السبيل، إلى أن يدخل الشيخ وتلميذه من باب المسجد، ليبدآ درسهما اليومى من بعد صلاة العصر إلى صلاة العشاء.
هنا تظهر المفارقة الكبيرة.
ففى مدينة السويس الصغيرة سنة 1926، لم يكن أحد من أهلها يجهل من هو الشيخ البخارى، إمام مسجدها، وعالمها وفقيهها، جميعهم يجلونه ويرهبونه، فإن له علمًا ورأيًا، وإن فيه لشجاعة فى الحق، وأنفة تدخله لديهم مدخل الكبر الذى لا يغتفر لمن كانت به كالشيخ خصاصة شديدة يداريها بتجمل شديد.
وفى مدينة السويس أيضًا لم يكن أحد يجهل كذلك من هو الصبى الصغير، ابن ذلك الموظف النازح إلى السويس، فيه وسامة وأناقة، وفى لسانه عذوبة وذلاقة، وإنهم ليعرفونه رجلًا قبطى الصليبة، يؤم الكنيسة يوم الأحد.
يتدخل نظمى لوقا بنفسه ليعمق هذه المفارقة ويحلها فى الوقت نفسه.
أسمعه يقول: «وفى مدينة كالسويس يتساءل الناس عن النازحين إليها والغرباء من الطارئين، وهم يعرفون أن لهذا الموظف والد الصبى علاقة عريقة فى صناعة القسوس، فكم له من جد من ذوى الطيالس والعمائم السود، فلا شك إذن فى قبطية هذا الصبى الذى يرونه كل يوم يؤم مسجدهم مع الإمام العالم الشيخ، وأن الحيرة لتستبد بهم، ثم تأخذهم نافلة من الغيرة، يتهامسون بها فيما بينهم ويتناجون».
لم يكن هذا المشهد وحده هو الذى أرق من لا يعرفون حقيقة ما يجرى بين الشيخ والصبى.
كان هناك مشهد آخر، جرت وقائعه فى المسجد.
فالمصلون كانوا يرون الشيخ البخارى ينفض يديه من درس الفتى فى مؤخرة المسجد، ويتقدم فيؤم المصلين، ثم يعود ليصل من الدرس ما انقطع.
ما بين رحيل الشيخ عن الفتى ثم عودته إليه، كان الصغير ينظر إلى المصلين، ويستمع إلى ما يتلى على مسامعه من آيات القرآن فى الصلاة، وفى عينيه ذاك القلق الظاهر الذى يودع به من يحملقون فيه من الداخلين إلى المسجد أو الخارجين منه.
كان لا بد من مواجهة، وقد جرت دون تأخير، جلس واحد من المصلين إلى الشيخ البخارى ليراجعه فيما يفعل.
قال له: إذا كان الأمر رغبة منك فى التدريس، فلماذا رفضت التدريس لابن فلان وابن فلان، وإذا كان رغبة فى المال فيمكن لكثيرين من المسلمين أن يمنحوك ما تريد؟
لم يرد الشيخ البخارى على منتقده بسبب الصبى الصغير، بل فعل ما هو أكثر.
تعالوا نستمع إلى نظمى من جديد.
يقول: «يضمر الشيخ فى نفسه أمرًا، فإذا كان الغد أرسل إلى ذلك المعترض أن يوافيه بعد صلاة العصر لأمر، ويحضر الرجل وقد عقد مجلس الدرس بجوار عمود المسجد ويستمهله الشيخ قليلًا ريثما يفرغ له ويتابع الدرس، وكان موضوعه تفسير سورة الضحى، ويتلو الصبى السورة بلسان قويم، وإيقاع سليم، ويختمها بـ(صدق الله العظيم)، ثم يشرع فى تبيين معانيها، مستشهدًا بسيرة الرسول الكريم، والشيخ يناقشه حينًا، ويوجهه حينًا ثانيًا، ويستوضحه حينًا ثالثًا.
بلغ الموضوع غايته، فوجه الشيخ الكلام إلى صاحبه الزائر المعترض قائلًا: كيف بنوك يا فلان؟
فرد عليه: بخير يا مولانا يقبلون الأيادى.
فقاطعه الشيخ: تعرفنى يا فلان أمقت تقبيل الأيدى وأخذل عنه الناس، أعرفت فيم أرسلت إليك؟
ففهم الرجل ما رمى إليه الشيخ البخارى، وقال: عرفت يا مولانا».
كان لا بد لنظمى لوقا من ختام المشهد بتعليق يخصه.
قال: «نهض الرجل محييًا، وحرص على أن يصافح الصبى الصغير فى مودة سابغة أشبه بالاعتذار، ورآه الفتى بعد ذلك اليوم- وكان ساعاتيًا له دكان قريب من المسجد- يستقبله بالتحية التى يلقى بها الشيخ، كلما مر به قادمًا أو منصرفًا، ويكاد يلمس فى صوته وإيمائه هزة الخشوع».
مشهد الصبى المسيحى الذى يتردد على المسجد؛ ليحفظ القرآن على يد الشيخ البخارى، لم يغضب المسلمين فقط، بل أغضب المسيحيين أيضًا.
وكما اعترض مسلمون لدى الشيخ، اعترض مسيحيون لدى والد الصغير.
وجد والد نظمى من يقول له: كيف تخاطر بابنك هذه المخاطرة؟
ألا تخشى أن يفتنه الشيخ البخارى عن دين آبائه.
لم يمنع الأب ولده الصغير عن جلسات الشيخ البخارى.
يحكى نظمى ما جرى معه: «وجد الفتى أبويه يقرآن له فصولًا من الإنجيل كل يوم، ويرسلانه إلى الكنيسة يوم الجمعة، وجعلت أسرار العقيدة تصب فى دماغه صبًا، فاستعصى منها على ذهنه ما استعصى وناقش، فقيل له: إن الإمعان فى التفكير يسوق إلى الكفر، وإن المناقشة سبيل الشك، ومن دخل الشك قلبه فارقته نعمة الإيمان، وبغير نعمة الإيمان يهلك المرء ولا يدخل ملكوت السماء».
وقد تتعجب لماذا لم يمنع والد نظمى ابنه من الذهاب إلى الشيخ البخارى، فيريح ويستريح.
كان فى الأمر سر ما فى ذلك شك، فقد كان الأب شديد الطموح فى تطلعه إلى مستقبل ابنه، يحلم بأن يحقق فيه وبه ما لم يتيسر له شخصيًا من الجاه العريض وعلو المكانة، وقد أغراه بهذا ما وجده فى الصبى الصغير من استعداد لغوى وتعلق بالمعرفة والاطلاع وعزوف عن اللهو الذى يولع به أنداده.
لقد ولد نظمى فى العام 1920، كان والده يعيش العصر الذهبى لفرسان المنابر كما كانوا يطلقون عليهم، فصار حلمه أن يرى ولده يومًا فى مكانة مكرم عبيد، الذى كان واحدًا من قادة ونجوم ثورة 19، وعرفه المصريون خطيبًا مفوهًا تجرى اللغة العربية على لسانه بسهولة ويسر، وقد ساعده حفظه القرآن الكريم على هذه القدرة البلاغية المبهرة.
كان والد نظمى يردد دائمًا: أوليس مكرم عبيد ابن سعد زغلول وأخطب خطباء جيله يحفظ القرآن ويستشهد به دومًا؟ أوليس هذا البيان هو الذى بوأه تلك المنزلة فى قلوب جماهير الأمة مسلميها وأقباطها؟
استقر فى يقين والد نظمى أن ابنه لا بد أن يحفظ القرآن ويتعلم اللغة العربية حتى يصبح خطيبًا مفوهًا مثل مكرم عبيد، خاصة أنه قرر أن يدرس ابنه فى كلية الحقوق، وهى الكلية التى كان يتخرج فيها السياسيون والوزراء الكبار.
لم يجد الموظف البسيط أحدًا فى دمنهور، حيث يعيش، يمكن أن يعين ولده على ما يريده.
كان القدر يدخر له مراده فى السويس التى انتقل إلى العمل فيها، وكطبيعة الأشياء تم الأمر كله بالصدفة.
بالقرب من مكان عمل والد نظمى لوقا كان هناك محل حلاقة، وهناك التقى شيخًا ضريرًا مفرطًا فى القصر له دماغ بالغ الضخامة وجبينه العريض بارز بروزًا لافتًا للنظر ووقار وأنفة وجاذبية الحديث، عرف أنه كان من تلاميذ الإمام محمد عبده، وأنه إمام جامع الشوام الذى يقع محل الحلاق فى مواجهته.
فى محل الحلاق كان يستقبل الشيخ أهل الحى الذين اعتادوا أن يسألوه عن كل شىء، ولفت انتباه ضيف المدينة الجديد أن الشيخ حريص فى نصحه للناس على كل ما هو رفيع ونبيل من مكارم الأخلاق كالمودة والتراحم والتسامح وترك الملاحاة والعزوف عن الشحناء.
استراح والد نظمى للشيخ، وقادته راحته تلك إلى يقينه بأن هذا الشيخ البليغ الذكى السمح خير من يفتح لابنه كنوز البلاغة العربية ويعرفه أسرارها، وأنه هو أيضًا هو من سيضع قدمى الصبى الصغير على طريق الزعامة فى مقتبل أيامه بعد تخرجه فى مدرسة الحقوق.
نظمى لوقا نفسه يصف لنا اللحظة التى جمعت بين والده وبين الشيخ البخارى.
يقول عنها: «كان والد الفتى- أكرم الله مثواه- شديد الولوع بالفصاحة والفصحاء، اتفق له شىء من قرض الشعر فى صدر شبابه، وآمن أن ولده البكر ينبغى أن يصيب من ينابيع الضاد وبلاغتها أكبر حظ مستطاع، ورأى هزال ما يتاح لطلاب المدارس من ذلك كله، فعهد بولده إلى ذلك الشيخ الذى التقى به فى دكان الحلاق، فبهرته منه شخصية مشرقة، وذهن رحب، وسماحة ما كان يتوقعها فى أحد الأشياخ، فقد سمعه يستشهد أمامه بآيات من الإنجيل، وهو فى حديثه الدارج مع الناس من حوله، لا يحيد عن الفصيح من اللفظ والجزل من التراكيب، فكأنما خرج الشيخ لتوه من سوق عكاظ».
رفض الشيخ البخارى فى البداية أن يدرس شيئًا لنظمى، لكن الوالد بدأ فى إغرائه بمميزات الفتى الصغير.
قال له إنه أقرأ ولده كليلة ودمنة قبل أن تسمح سنه بدخول الدراسة الابتدائية، وإن ابنه هو أصغر طلاب مدرسته وأقصرهم قامة، وجد نفسه فى مؤخرة صفوف فصله فى أول يوم دراسة، فرفع يده للمعلم الذى كان معممًا، وقال له بلغة فصيحة: أريد أن أجلس بجوار السبورة، فضج التلاميذ بالضحك، وقال المعلم ضاحكًا: لك ذلك أيها الفيلسوف العجر، فذهبت الكلمة مثلًا وصارت هذه كنيته بين زملائه وأساتذته، لأنه يرفض الحديث إلا باللغة الفصحى.
ظل الشيخ البخارى مترددًا، حتى استمع من والد نظمى رغبته فى أنه يريد تقويم لسان ابنه بالقرآن وتهذيبه بحفظ المعلقات وعيون الشعر، فقال: أما وأنت لا تريدنى على تدريس تلك المناهج السقيمة والخوض إلى تلك المدارك الضحلة، فهذا مطلب تطيب به نفسى وينشرح له فؤادى.
لم يطلب الشيخ أجرًا محددًا، أخبر والد نظمى أن الأمر متروك له.
بدأت الرحلة على الفور، حيث بدأ الصغير يحفظ القرآن، ويقف عند كل آية، ويملى عليه الشيخ موجزًا لتفسيرها، ثم يملى عليه ما يتطرق إليه ذهنه من الأمثال السائرة والشعر المشهور، فتعلم نظمى منذ صغره كيف يربط المعنى اللغوى بالصورة الجمالية والذوق الأدبى.
علم الشيخ البخارى نظمى أشياء كثيرة.
عندما وجده فخورًا بنفسه بعد أن حصل على المركز الأول متفوقًا على زملائه فى امتحان نصف السنة، جعل موضوع درسه له بيتًا من الشعر ثم آية من القرآن الكريم.
أما بيت الشعر فكان: وإذا كانت النفوس كبارا تعبت فى مرادها الأجسام.
وأما الآية فكانت: «ولا تمش فى الأرض مرحًا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا».
وعندما أخبره أن أستاذه فى السنة النهائية بالمدرسة استدعاه وطلب إليه أن يصحح- وهو التلميذ بالسنة الأولى- خطأ وقع فيه طلاب الفرقة النهائية جميعًا، وهو ما فعله ببساطة، فأمر الأستاذ تلاميذه أن يقفوا ويحيوا نظمى تحية التعظيم فقبلوا ذلك صاغرين، لكنهم وبعد انقضاء يومهم الدراسى تربصوا له بباب المدرسة وأحاطوا به وخطفوا طربوشه وجعلوا يتناقلونه بالأرجل، وصبوا على الصغير سخريتهم وآذوه باللفظ واليد، حتى تمزقت ملابسه.
لم يفعل الشيخ البخارى وقتها إلا أن جعل حديثه مع نظمى يدور حول معنى الحكمة التى تقول: آية الفضل أن تعادى وتحسد.
وحدثه عن بيت الشعر الذى يقول: كل العداوات قد ترجى إزالتها إلا عداوة من عاداك عن حسد.
وقبل أن يتركه يعود إلى بيته، حدثه بما قاله أبوالطيب المتنبى: وإذا أتتك مذمتى من ناقص فهى الشهادة لى بأنى كامل.
شعر نظمى بأن الشيخ البخارى عالجه إلا قليلًا، لكنه كان يريد أن يثأر لنفسه ممن أهانوه، فقطع عليه شيخه الطريق، وقال له: غدًا نتحدث عن قول المتنبى: وأتعب من ناداك من لا تجيبه وأغيظ من عاداك لا تشاكل.
وقبل أن يفيق نظمى من اللحظة التى ضبطه فيها شيخه متلبسًا بالرغبة فى الانتقام، ذكره بقول المسيح عليه السلام: «يا أبت اغفر لهم فإنهم لا يدرون ما يفعلون».
لا يزال فى جعبة الشيخ البخارى الكثير، وأعتقد أن هذا الموقف كان فارقًا جدًا فى تكوين نظمى، وهو التكوين الذى قاده بعد ذلك إلى فلسفته وإنصافه لمخالفيه حتى فى المعتقد.
جاء غلام صغير إلى المسجد يلتمس الشيخ، فعرف نظمى أنه خادم أستاذه، فقال له: الولد حضر يا مولانا.. الولد خادمك.
أنهى الشيخ البخارى حاجة خادمه، ثم التفت إلى نظمى، وقال له: ما هكذا يكون أدب السادة أيها السيد، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول فتاى وفتاتى ولا يقول عبدى أو أمتى.
أدرك نظمى الخطأ الذى وقع فيه، وقبل أن يرد، وجد شيخه يقول له: أرجو أن تفكر حتى غد، وعندما تخلو إلى نفسك فى المخدع، ماذا لو كنت مكان أحد ممن تسميهم خدمًا؟ فإنه مثلنا ابن أب وأم، والدهر الذى جار عليه جار على سائرنا، وأحب أن تفكر فى قول الشاعر: إذا مــا الدهر جرّ على أناس كـلاكــله أناخ بآخـرينا.
الدرس كان قاسيًا جدًا، لم ينم نظمى من ليلته، تصور أن أباه هلك بالفعل، وتصور نفسه يتلقى الركل والسباب والإهانة بعد أن تحول إلى خادم، وعندما استيقظ تعمد أن يعامل خادمهم تعاملًا رقيقًا، ولما وجد أمه تسب الخادم وتتعجله قضاء بعض حاجاتها ثار فى وجهها، وحدثها بما قاله له الشيخ البخارى عن أدب النبى محمد وصحابته فى التعامل مع الخدم، ففزعت مما سمعته.
لم يتوقف الأمر عند الفزع، تحدثت والدة نظمى مع والده فيما سمعته، فقررا ألا يذهب الصغير إلى الشيخ البخارى مرة أخرى.
سأل الشيخ عن فتاه، فقالوا له إن به وعكة لا يستطيع معها أن يذهب إلى المسجد.
أبدى الشيخ عدم اقتناعه بمبرر غياب تلميذه، فتحدث الأب عمَّا سمعه وجرى من ابنه وعاتب الشيخ، ليدور بينهما هذا الحوار الذى كان فارقًا جدًا.
الشيخ: هل ترضى منى أن آخذ ولدك بغير الأدب الأكمل والنهج الأقوم وأن أعرف الحق وأحيد به عنه؟
الأب: بل لا أريد.
الشيخ: وإن أردت أنت فلن أريد، لأن ذلك هو الغش البين، فهل تراك أخذت على الدهر ميثاقًا، وقد عجز عن ذلك الملوك والسلاطين وأصحاب الملايين من قبلك.
الأب: ولكن الله يا مولانا رفع الناس بعضهم فوق بعض درجات.
الشيخ: ويداول الدنيا بين الناس، ثم أما قرأت كتابك؟ ألم تجد فيه أن المسيح عليه السلام غسل أقدام حوارييه؟ آداب الرسل ليس فيها تفاوت، وإنما التفاوت عندنا حين نفرط فى لباب الدين لنتعلق بزخارف الدنيا.
عاد والد نظمى إلى بيته ليقول لزوجته أن ترسل الصغير إلى الشيخ، فما كان ليحبسه عن رزق من الحكمة الرفيعة أتاحه له الله فى صورة هذا الشيخ.
وقال لها: إنى لأستحى والله أن يظن الشيخ بنا أننا دون هذه الآداب.
كان من الصعب بعد كل ذلك أن ينصت والد نظمى لمن خوفوه من مصير ابنه بين يدى الشيخ.
لكن كيف تشكل هذا المصير؟
فللحكاية بقية.