رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ولي ومريد «2»

الحلاج.. قديس أم إبليس؟


- أتم حفظ القرآن وهو فى العاشرة وسيطرت عليه أسئلة عن الله وأين هو؟ وكيف هو؟
- كل ما قاله عن الاتحاد مع الله والحلول فيه لم يكن على سبيل الحقيقة بل تعبير مجازى عن الحب
منذ زمن بعيد كنتُ مُريدًا أبحث عن ولىّ، أتعلم منه كيف أُحب الله، وبعد عمر طويل عرفت أننا لا يمكن أن نصل إلى الحب بالتعلم، ولكننا نصل إليه بمجاهدة النفس، وحينما كنت أظن أن الجهاد لا يكون إلا بالقتال، أرشدنى الأولياء إلى أن الجهاد هو جهاد النفس، وقالوا لى: انظر إلى قول الله تعالى «والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين»، لتعلم أنك لن تحب الله إلا إذا جاهدت نفسك.
سيغضب الكثيرون منكم حينما يعرفون أن الحلاج قال: «مزجتُ روحَك فى روحى كما تمزج الخمرة بالماء الزلال.. فإذا مسَّك شىءٌ مسنى.. فإذا أنت أنا فى كل حال»، وسيتهم معظمنا الرجل فى دينه، فهو يتكلم هنا عن الله سبحانه وتعالى! كأنه يقول إن الله حلَّ به وامتزج بناسوته، أى ببشريته، وسيشتط الغضب بنا ونحن نقرأ للحلاج قوله: «أنا من أهوى ومن أهوى أنا.. نحن روحان حللنا بدنًا» ولكننا سنعود إلى هدوئنا وصفاء أنفسنا، ونحن نقرأ قوله: «والله ما طلعت شمس ولا غربت.. إلا وحبك مقرون بأنفاسى.. ولا جلست إلى قوم أحدثهم.. إلا وأنت حديثى بين جلاسى» سنقول وقتها: إن هذا الرجل أحب الله حبًا ملك عليه فؤاده، وما بين الغضب والرضا ستتراوح مشاعرنا، فمَن هذا الرجل الذى اختلف فيه الناس؟! هل تريدون معرفته معى؟.
سأعطى لكم من سيرته شذرات لنصل من خلالها إلى قلبه، فقد ولد صاحبنا فى منتصف القرن الثالث الهجرى فى ظل الدولة العباسية، وكان قد مضى على سقوط الدولة الأموية أكثر من مائة عام، وبدأت حركة الترجمة تنشط بشكل كبير، حيث قام المترجمون بترجمة الكتب عن اليونانية والفارسية، وازدهر الشعر، فى ظل هذا الجو ولد الحلاج، وقد اختلف المؤرخون فى مكان ولادته، ولكنهم لم يختلفوا فى أنه عاش فى بغداد وتنقل بين كثير من البلاد، وقد وصل إلينا من سيرته أنه أتم حفظ القرآن وهو فى العاشرة، ويبدو أن الأسئلة الوجودية التى تنتاب الأطفال الصغار عن الله، وأين هو؟ وكيف هو؟ قد سيطرت على مشاعر وخيال هذا الفتى الغرير، فشُغل بالله وأخذ يبحث عنه، وكان من ذلك أن تعرَّف قبل أن يبلغ مبلغ الرجال على أحد كبار المتصوفة فى عصره «سهل التسترى» وكانت مدرسة التسترى فى التصوف تقوم على دوام ذكر الله فى كل حال، وكان التسترى قد وجد فى ذلك حلاوة فى قلبه، فتعلم الحلاج منه ذلك، وبدأ بذكر الله يتذوق حلاوة لا يعرفها إلا من ذاقها، ولا يستطيع وصفها من نالها، ولا يدرك سعادتها كل من ابتعد عنها، ويبدو أن الحلاج قد سمع وقتها القول المشهور للصوفى إبراهيم بن أدهم: «لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من النعيم إذًا لجالدونا عليه بالسيوف».
المهم أن الحلاج أخذ يجاهد نفسه ويمنعها من ملذات الدنيا، وظل يداوم على ذكر الله فى كل حين، وفى رحلته الروحية جلس مع كثير من كبار المتصوفين فى عصره مثل الجنيد، وعمرو بن عثمان المكى، وحينما ذهب إلى مكة أول مرة مكث فيها عامًا، اعتكف خلالها عند الكعبة، يرتدى خرقة الصوفية التى ألبسها إياه القطب الصوفى «الجنيد» صائمًا يفطر على شربة ماء ولقيمات قليلة لا يُقمن أود رجل، حتى أصابه الهزال واسمر وجهه بعد بياض، وظل لا يغادر مكانه ليلًا أو نهارًا، صيفًا أو شتاءً، اللهم إلا إذا قام للوضوء أو قضاء الحاجة، وكان حاله بين الصلاة والتسبيح والذكر والدعاء، ومن بعد أخذت أشياء تطرأ على شخصيته، فحينما عاد إلى البصرة خلع الخرقة وأخذ يتحدث مع الناس فى الطرقات ويعظهم، ويشق ثوبه وهو يصرخ فيهم: «أيها الناس، اعلموا أن الله قد أباح لكم دمى، فاقتلونى، اقتلونى تؤجروا، وأستريح، اقتلونى، فتُكتبون عند الله مجاهدين، وأُكتب أنا شهيدًا» وكان يقول: «اقتلونى يا ثقاتى إن فى موتى حياتى» كان قلبُه قد فنى فى حب الله فأراد أن يُفنى جسده! ومرت أعوام قليلة كتب فيها الحلاج أكثر من أربعين كتابًا، حُرقت جميعها ولم يصل لنا منها إلا كتابه «الطواسين» و«بستان المعرفة» فضلًا عن بعض قصائده وأقواله.
والآن فلنستريح قليلًا، إذ لا يعنينا الآن أن ندخل إلى فلسفة الحلاج، ولا فكرته عن أن هذا الكون كله عبارة عن تجليات لأسماء الله، ولا ما اتهمه به البعض بأنه كان ينادى بوحدة الوجود، أو امتزاج اللاهوت بالناسوت، فكل تلك الاتهامات كانت هراء، إذ هى تشبه إجراء مقارنات بين شيئين مختلفين جد الاختلاف، وللتبسيط أقول إن ذلك مثل من يسأل: الجبل أطول أم العسل أحلى؟! أو هو يشبه الصياد الذى يطلب من سمكة القرش التى اصطادها أن تتسلق الشجرة، قطعًا ستموت السمكة بعد قليل من خروجها من الماء ولن تتسلق الشجرة، ولكن صاحبها سيرميها بالعجز والغباء، فأمامه عشرات القرود التى تستطيع تسلق الشجرة!.
ولكن الذى يعنينا هنا أن ندخل إلى قلب الحلاج لكى نفهم أقواله وكتاباته دون أن نصيب رءوسنا بصداع الفلسفة، ومصطلحات الصوفية، فالحلاج ببساطة أحب الله سبحانه وتعالى، والحب ليس له مقياس أو ترمومتر، وأيضًا ليس له منطق، ولا يمكن أن نُخضع المُحب ومشاعره لمقاييس الإيمان والكفر، ولذلك فلنا أن نعرف أن كل ما قاله الحلاج عن الاتحاد مع الله والحلول فيه، أو حلول الله فيه لم يكن على سبيل الحقيقة، كما لم يقل الحلاج ذلك معتقدًا بصحة العبارات التى قالها، ولكن كل ما قاله كان على سبيل المجاز، فقد أراد أن يُعبِّر عن عشقه لله ولم تكن هناك لغة على وجه الأرض تستطيع أن تُعبر عن تلك المشاعر الفياضة العاتية، وقد حدّث الحلاج نفسه بالسكوت، ولكن المِسك الذى فى قلبه انسكب وفاح فلم يستطع كتمه، وحينما عاتبه بعض الشيوخ على كلامه الذى ظنوا أنه يقصده بخصوص حلول الله فيه فما كان منه إلا أن قال لهم: ألم يقل الله فى القرآن «ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد»، الله أيها الناس أقرب إلينا من أوردة الجسم التى تجرى فيها الدماء، فهل المعنى الذى فهمتوه من الآية هو أن الله كامن فى جسم الإنسان وأكثر قربًا له من حبل وريده؟! ثم ما لكم كيف تحكمون أيها الناس، ألم يرد فى الحديث القدسى «لا يزال عبدى يتقرب إلىّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به، وبصره الذى يبصر به، ويده التى يبطش بها، ورجله التى يمشى بها، ولئن سألنى لأعطينه، ولئن استعاذنى لأعيذنه» هل قال الله ذلك على سبيل الحقيقة أم على سبيل المجاز؟ أتؤمنون فعلًا أن الله أصبح عينًا وسمعًا ويدًا ورِجْلًا للأولياء؟ أما الآن فلنا أن نسأل: هل ما قاله الحلاج يمكن أن نعتبره مجازًا عبَّر به عن شدة حبه لله بلغة الناس المحدودة؟ هذا ما سنعرفه فى الحلقة القادمة وفيها سنعرف كيف انتهت حياة الحلاج بشكل مأساوى.