رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ربك رب قلوب «2»

أيمن الحكيم يكتب: لأول مرة.. قصة زواج الشيخ محمد رفعت

جريدة الدستور

- زوجته سحرته بطواجن البامية وحملته فى سنوات مرضه بالسرطان وماتت ساجدة فى ليلة القدر

فتش عن «زينب» فى حياة الشيخ محمد رفعت، وفى حياة سيد المقرئين حبيبتان اسمهما «زينب»، الأولى هى رئيسة الديوان وعقيلة آل بيت النبى، وكان الشيخ من محاسيبها، وعاش فى رحابها طيلة عمره، وكان بيته يقع فى حيّها وعلى بعد خطوات من مقامها، وكان يحمل لها من المحبة ما يفيض عن اتساع القلب. و«زينب» الثانية هى زوجته وأم أولاده، والمرأة التى عاشت معه فى السراء والضراء، و«حملته» بكل معانى الكلمة فى سنوات مرضه المريرة التى طالت لثمانى سنوات كاملة.
كان قيثارة السماء فى بدايات حياته عندما تعرض لصدمة قاسية بفقدانه شقيقه الشاب محرم، الذى كان يتولى رعايته ويدير شئونه ويصحبه فى كل مكان يذهب إليه.. كان هو بصره الذى فقده، وعصاه التى يتوكأ عليها، ودليله فى الحياة.
وتحمّل الشيخ «المصيبة» برضا رجل متصوف، وقرر أن يتولى تربية ابنى شقيقه الراحل «ابن وابنة»، وجاء بهما ليعيشا معه فى بيته بالسيدة زينب.. وأصبحت الظروف مُلحة على زواج الشيخ، كان فى حاجة ماسة لامرأة تتولى مسئولية هذا البيت الذى يعيش فيه مع والدته وخالته وابنى شقيقه المتوفى، ولأن المسئولية صعبة، فقد تقرر أن يكون أول وأهم شرط فى الزوجة المنتظرة هو أن تكون «عفيّة»، تتمتع ببنيان قوى وصحة مفرطة حتى تتحمل «الشقا» الذى ينتظرها فى رعاية شيخ ضرير وأسرته معه.
ووقع اختيار الأسرة على تلك الشابة «العفيّة»، وجاءوا بها من قريتها البسيطة «الفرعونية» القابعة فى محافظة المنوفية، وربما كان اسمها «زينب» من الأسباب التى فتحت لها قلب الشيخ، فقد كان هو اسم حبيبته.. أم العواجز.
وكان الاختيار موفقًا للغاية، فقد تحملت «زينب» مسئولية بيت مكون من ثلاثة طوابق بكفاءة منقطعة النظير، بيت لا ينقطع زواره، خاصة طابقه الأرضى الذى كان يضم ثلاث «منادر» متجاورة، أبوابها مفتوحة دائمًا لزوار الشيخ وضيوفه، سواء من إخوته فى الطريقة النقشبندية وحضراتهم التى لا تنقطع بين صلاتى المغرب والعشاء، أو زملائه من المقرئين ومقارئهم الجماعية لتثبيت القرآن فى صدورهم، أو المحبين من أهل الفن والإبداع، وعلى رأسهم عبدالوهاب وليلى مراد وفتحية أحمد والريحانى، أو من البسطاء الذين يجيئون فى أى وقت وبلا مواعيد لزيارة الشيخ، ونيل بركته بالسلام والطعام.
كانت «زينب» تقضى أغلب وقتها فى مطبخ البيت الكبير تتفنن فى صنع «الطواجن» للشيخ وضيوفه، وبكميات تكفى العشرات منهم.. يوميًا.
وكانت لها صنعة خاصة فى طواجن «البامية»، أحب الأكلات إلى قلب الشيخ رفعت ومعدته، خاصة إذا ما اختلطت باللحم الضانى، وكانت علاقة الشيخ بالبامية مضرب الأمثال، وحتى عندما توفى الشيخ كانت أسرته تحرص على أن تقيم فى ذكراه السنوية «وليمة» لمن يأتى من محبيه، وكانت «البامية» هى الطبق الرئيسى فيها، تقديرًا لأكلة الشيخ المفضلة.
أنجبت «زينب» للشيخ أولاده، وهم بالترتيب: «محمد» الذى تولى إدارة شئون الشيخ، وكان بمثابة مدير أعماله وسكرتيره بعد عمه «محرم».. «أحمد» وكان آخر منصب وصل إليه هو مدير إدارى بكلية الفنون التطبيقية.. «بهية».. «حسين» وكان الابن الأصغر الذى بذل الجهد الأكبر فى جمع تراث الشيخ وتسجيلاته وترميمها والمحافظة عليها بعد رحيله.
ولأنها كانت الابنة الوحيدة، فقد حظيت «بهية» بتدليل خاص من والدها ووالدتها، ورثت «بهية» وسامة والدها وجمال عينى والدتها، فكانت آية فى الجمال، وتقول المرويات التى تتوارثها أسرة الشيخ إن الموسيقار محمد عبدالوهاب كان معجبًا بها وكان يرغب فى الزواج منها، لكن الشيخ رفعت رفض رغم محبته لعبدالوهاب.
لكنه- أى الشيخ رفعت- قَبِل وساطة مطربة القطرين «فتحية أحمد» عندما رشحت له «عبده فراج»، أستاذ الفلسفة الذى يدرّس المادة لابنها التلميذ فى المدرسة، وكانت تعرف أنه يبحث عن زوجة بنت أصول، فزكّته لدى الشيخ، مؤكدة حسن خُلقه وجدارته بالنسب، وجاء الأستاذ عبده ليجلس مع «أبوالعروسة»، ووافق الشيخ بعد أن استيقن من خُلقه ومن التكافؤ بينه وبين ابنته «فلكيًا»، وربما يُدهش كثيرون عندما يعرفون أن الشيخ محمد رفعت كان على دراية بعلم الفلك ومن المؤمنين به.
وصدقت فراسة الشيخ وعلوم الفلك، فقد حمل عبده فراج «الذى سافر فيما بعد لاستكمال دراسته الفلسفة فى فرنسا واشتغل بتدريسها فى الجامعة» ابنة الشيخ الوحيدة فى عينيه، وعاشت معه حياة هنيئة، وماتت قبله بسنوات، وعاش بعدها مخلصًا لذكراها، وكثيرًا ما كان يذهب إلى مقبرتها ليناجيها وكأنها أمامه تسمع وترى، وكان بيته فى مدينة نصر يكتظ بلوحات رسمها لزوجته بريشته وبقلبه، وكان الشيخ رفعت يحبه كواحد من أبنائه، وفى سنوات مرض الشيخ الطويلة انتقل إلى بيت «بهية» وزوجها.. وأسلم فيه روحه الطاهرة.
كانت السيدة زينب الزوجة «ست قوية» الشخصية، وكان أولادها الذكور يهابونها ويعملون حسابها أكثر من والدهم، الذى كان بالنسبة لهم هو نبع الحنان، فلم يعلُ صوته على واحد منهم، بل كانوا يهربون إليه من حزم الأم وشدتها.. وبلغ من حنان الشيخ أنه أصر على أن يتزوج أولاده ويقيموا معه فى البيت نفسه ولا يفارقونه أبدًا.. تزوج محمد وأحمد وحسين على التوالى وأقاموا معه، لكن البيت سرعان ما ضاق بالزوجات والأحفاد، فانتقلوا إلى بيوت أخرى.
ورغم انشغال الزوجة برعاية الشيخ والاهتمام به فى كل شئونه، وبرعاية أسرته الكبيرة التى راحت تتسع وتكبر، إلا أنها كانت حريصة على «المقابلة»، وهو طقس نسائى تعرفه نساء البيوتات الميسورة فى ذلك الزمان، حيث كنّ يخصصن وقتًا تلتقى فيه الصديقات فى جلسات نسائية بعيدًا عن الأزواج وقيود الحياة الزوجية.. وقتًا يقضينه فى أكلات معتبرة وكلام فى كل شىء.. وكانت زوجة مطرب زمانه «صالح عبدالحى» وشقيقاته هن الصديقات الأقرب لزوجة الشيخ رفعت، وتحرص على «المقابلة» معهن، لكنها كانت أشد حرصًا على أن تعود لبيتها قبل أذان المغرب، حيث يستيقظ الشيخ من قيلولته ويبدأ فى الاستعداد للصلاة، وللحضرة، فتكون جاهزة لتلبية طلباته.
كانت «زينب» وشّ السعد على الشيخ رفعت، فقد علا نجمه بعد زواجه منها، وأصبح هو صاحب الصوت الأشهر بين مقرئى القرآن فى مصر، وافتتحت به الإذاعة المصرية إرسالها، وتعاقدت معه على قراءة يومية مقابل أجر هو الأعلى فى تاريخ الإذاعة حينها، وكان الملايين فى أنحاء القُطر المصرى ينتظرون موعد التلاوة اليومية لقيثارة السماء، ويلتفون حول أجهزة الراديو فى البيوت والمقاهى، بل كان البسطاء حين يذهبون لشراء أجهزة راديو جديدة يطلبون من صاحب المحل فى جدية شديدة: «عايز راديو بيجيب صوت الشيخ رفعت».
عاشت معه زينب أيام سعده، كما عاشت معه بنفس الرضا سنوات محنته بعد إصابته بسرطان الحنجرة، فاحتبس الصوت الأسطورى، وظل الشيخ ثمانى سنوات متصلة على فراش المرض بلا دخل ولا عمل.. وخلال تلك المحنة كانت الزوجة الصابرة معه فى كل لحظة، تخفف عنه وتحمله كما تحمل الأم أولادها وترعاه بحنو، لا تشتكى ولا تتبرم من طول المرض وضيق العيش، إلى أن فاضت روحه الطاهرة فى ١٤ مايو ١٩٥٠.
ولما انتقل الشيخ عاشت بعده زوجته ١٦ سنة، وانتقلت لتعيش فى بيت ابنها الأكبر «محمد»، وكانت حريصة على إحياء ذكرى زوجها فى كل سنة، وأن تطبخ بنفسها طواجن البامية لضيوف الذكرى مثلما كانت تطبخها له فى حياته.
تحكى لى السيدة هناء حسين رفعت، حفيدتها: «كنا نسميها (نينة الكبيرة)، وكنا نحن أحفادها نخاف منها ونهابها، خاصة إذا ما ارتفع صوتها وبان غضبها.. وكان والدى (حسين رفعت الابن الأصغر للشيخ) يحكى لنا كيف كان هو وإخوته يهربون من شدة جدتى إلى حنان جدى.. وكيف كان الشيخ فى ملابسه البيضاء الدائمة فى بيته، سواء جلبابه أو غطاء رأسه وجلسته الحانية الراضية وهو يضع يديه على ركبتيه، يبدو وكأنه أقرب إلى الملائكة.. كانت جدتى رغم شدتها تحمل حنانًا خفيًا، ربما اضطرتها ظروف الأسرة إلى أن تخفيه، فقد كانت مسئولة عن بيت طويل عريض، وكان عليها أن تكون حازمة.. وأكرمها الله بحسن الختام.. فقد فاضت روحها فى ليلة القدر وهى ساجدة على سجادة الصلاة تؤدى صلاة العشاء.. وجرى دفنها فى الليلة نفسها على ضوء الشموع.. وحكى لى والدى أنه رغم جلال المشهد فإنه بدا وكأن جدتى ذاهبة لتحتفل بزفافها على جدى الشيخ رفعت».