رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

وائل خورشيد يكتب: أحببت هاء

جريدة الدستور

سقطت، وكان سقوطي مدويا وقت أن رأيتها، أو بمعنى آخر، حين علمت أنها موجودة في هذه الدنيا، لم تكن تعرف أنها مع كل نفسٍ تمحو كلماتي التي خطتها يدي من قبل، لم تكن تفهم أن كل خطوة لها تدهس بها صفحات من الكفاح لنفي وجود فكرة السقوط، هي لم تدرك وجودي، رغم أنها باتت كل وجودي، كيف لها أن تعيد صياغتي بلا تعب، فقط بابتسامة لم تكن موجهة لي من الأساس، هل أنا بلا مبدأ، أم أن الحياة الجديدة التي رأيتها من خلالها لها تعاريف أخرى.

مرة أخرى، حينما أراها، سوف أُسقط أمامها كل سيوف الماضي، سأرفع الراية البيضاء، سأعلن استسلامي لأني وصلت أخيرا لميناء سلامي.

غدا، سأقف أمام منزلها، سأنتظر خروجها، سأتوجه نحوها أحمل كل كتاباتي معي لأخبرها أني اتبرأ منها، سوف أتبرأ من نفسي.

أمام منزلها أقف، ها هي تخطو من جديد، تداعب خصلات شعرها، تنظر من حولها يمينا ويسارا، لا تراني، قدماي لا تتحركان، نظرت نحوي بعفوية، قفز قلبي كأنما يشعر أنها أطلت على ما يطويه بداخله، أوقفت سيارة الأجرة ورحلت.

مر ١٢٥ يوما وأنا أنتظرها هنا، أمام منزلها يوميا في نفس الموعد، صرت أعرف ماذا ترتدي، وألوانها المفضلة، نفذت إلى روحها وقرأت جزء غير قليل من شخصيتها، ومن كثرة متابعتها، صرت أتخيل أني أعرفها حقا لا خيالا.

اليوم حزين، انتظرها شاب على باب منزلها، ذهبت معها في سيارته وكانت سعيدة، جاء الليل، صعد معها لشقتها، يا لخيبتي، سقطت في حب امرأة عاهرة لا تشبهني، كنت محقا حينما صغت من العقل نبراسا للحب، ومخطئ لما تركته.
ها هو يهم بالرحيل وهي تودعه، يجب أن أقتله لأنه دنس براءتها، أغلقت الباب، ثم عادت تفحته من جديد بينما أتحرك نحوه: 'أخي.. انتظر، أعط تلك الهدية لأمنا حتى أزورها". أخي! قضيت يوما كاملا هنا أعذب نفسي، بينما هو أخيكِ، يجب أن أكلمها لأفهمها أني لا أحتمل مثل هذه الأمور، كان عليها أن تخبرني أن الأمر كذلك. الآن يمكنني أن أتنفس من جديد، أطفأت نور غرفتها، الساعة الآن العاشرة مساء، هي معتادة على النوم مبكرا، هكذا إذا تنام الشمس حتى يستيقظ القمر، ثم تظهر في الصباح فتضيء المكان.
فكرة جيدة، سأذهب إليها بباقة من الورود، وأخبرها بأمري. لماذا تعصى يداي أوامري ولا تطرق الباب، (لحظة تجمد) من أنت؟. هي تسأل. فقد فتحت الباب لأنه موعد خروجها. أنا عامل في محل الزهور الذي يقع على ناصية الطريق، جاء شخص وطلب مني أن أرسل هذه لكِ. نظرت للورد بسعادة، وقربت أنفها منها ثم ابتسمت، ورددت: من يا ترى؟ رغم حزني الشديد لأني لم أنفذ ما نويت، إلا أني شعرت بسعادة غامرة لأن كلماتها أكدت لي أنه ليس هناك أحدهم في حياتها. دخلت بالورود لشقتها، وطلبت مني الانتظار، عادت ووضعت البقشيش في يدي، وأنا مندهش، وابتسمت لها ورحلت.

وقفت بعيدا، أعاتب نفسي، كيف لم أعترض، وكيف لي أن آخذ منها بقشيش، ولماذا أسمح لها أن تراني بهذه النظرة، عامل في محل ورود! أنا الذي... أصمت يا أبله، لست تفلح في شيء سوى مخاطبة نفسك.

في اليوم التالي، أقف في الثامنة صباحا إلا دقيقة على باب منزلها، مرتديا زي عامل نظافة. فتحت الباب، مساء الخير. قالت: مساء؟! اعتذر منكِ سيدتي، صباح الخير.. أنا مندوب الحي لجمع القمامة، تنظر لي بتعجب شديد، ربما بدأت تتذكرني، ربما أحتاج للركض الآن. قالت: أممم.. هو أمر جيد، الآن صاروا يجمعون القمامة.. حسنا انتظرني هنا. عادت وفي يدها كيس صغير. تفضل.. أشكر لي الحي.

ألم أراك من قبل؟ من.. أنا سيدتي؟ لا أبدا. ودعتني ورحلت. قمامة، هل وصلت لهذه الدرجة من البؤس. لم تعاملني بتلك الطريقة. عد إلى رشدك، أكتب بقلمك الشديد علامات التمرد.
الآن مرت أسابيع، اختبرت فيها كل المهن الممكنة، ولم أبُح لها بشيء، لماذا أكون حكاءً فقط مع نفسي وفوق الورق، وأمامها أتحول لكل شيء إلا حقيقتي. كم أنا منافق.

سأجرب المهنة الأخيرة، سائق سيارة الأجرة التي تقلها، لأتيح لنفسي فرصة الحديث معها. 'تاكسي' صاحت من أمام منزلها بينما كنت أتحرك بسرعة ١ كيلو في الساعة بسيارة الأجرة التي استعرتها من صديق لي. ركبت في المقعد الخلفي.
ألست أنت مندوب شركة الآيس كريم الذي كنت تقف أمام منزلي بالأمس.. لا تنكر أنا متأكدة أنه أنت. هنا لا مفر لي من الاعتراف. بابتسامة مصطنعة نظرت نحوها: نعم سيدتي، لقد تركت الشركة وغيرت مجال عملي. نظرت لي باندهاش، ثم ضحكت كثيرا، ظلت تضحك حتى كاد وجهها ينفجر من الحمرة، سقطت على جانبها الأيسر وانهارت من الضحك، واعتدلت في جلستها ونظرت لي مرة أخرى ثم عادت للضحك من جديد. ألهذه الدرجة تحولت أنا لمسار سخرية، لا.. لن أسمح بهذا الأمر. سيدتي.. ما الذي يضحكك في وظيفتي الجديدة؟
أخرجت مفكرة من حقيبتها، فتحتها ونظرت لها، وقالت وهي تضحك: أنت تقف أمام منزلي منذ ٢٣٣ يوما، عملت في ٤٥ مهنة مختلفة، تأتي أمام منزلي يوميا في السابعة والنصف صباحا، وتقف عند المنزل المقابل بجوار عامود تظن أنه يخفيك. صمتت قليلا ونظرت من شرفة السيارة، ثم عادت من جديد: حزنت من أجلك كثيرا، ومرات كثيرة وددت لو أخبرك أني أراك، لكن صراحة أحببت الأمر، أحببت أن يكون هناك قصة نرويها فيما بعد، وأردت التأكد من مدى صدقك، فقد سبق وقرأت كل ما تكتبه على مدونتك وكم تعادي السقوط في فخاخ حب المرأة.. رسمتك يوميا طوال فترة انتظارك هنا على الصفحات، وكنت لا أطيق صبرا على أن أريك إياها، ولكن كل يوم كنت تفاجئني بشخصية جديدة، فلا أستطيع أن أمنع نفسي من الانتظار لأدونها.

سأخبرك سرنا الأول.. أنا 'هاء' التي تراسلك منذ ٥ أشهر على مدونتك.. ثم ضحكت من جديد.