رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إسلاميات كاتب مسيحي «2»

محمد الباز يكتب: رحلة البحث عن نظمي لوقا المجهول

الدكتور محمد الباز
الدكتور محمد الباز

- ظل طوال عمره يدافع عن أفكاره دون أن ينصت له أو ينصفه أحد رغم وضوح أهدافه
- ابنه تعرض للطعن بعد صدور كتابه «محمد الرسالة والرسول» الذى أغضب المتعصبين

يبدو أن الأمر لم يكن صدفة.
أحيانًا أقف على يقين بأنه لا مكان للصدفة أبدًا فى هذا العالم.
اسمحوا لى أن أفسر ما جرى على أنه كان مفارقة.. وما أكثر المفارقات التى ينسجها القدر على عينه فى حياتنا.
فى قريتى البعيدة، كنت أعكف على القراءة فى الكتب الدينية فقط، لم أكن أعرف غيرها، إذ لم يكن متاحًا لى غير ذلك، سعيت إلى أن تكون لى أول مكتبة، بعض المجلات والكتب القليلة كانت كل ثروتى، وضعتها فى ركن خاص، أتطلع إليها حالمًا بأن أقتنى فى يوم من الأيام مكتبة كبيرة.
كان أبى مزارعًا وتاجرًا، لم يمن الله عليه بنعمة القراءة والكتابة، لكنه حصل على ما هو أكثر، فكانت نعمة الوعى، التى مكنته من صياغة الحياة طبقًا لمفهومه الخاص وفلسفته الذاتية، وكان من نصيبى من وعيه هذا أنه أدرك أهمية القراءة بالنسبة لى، فكان داعمًا لتكوين المكتبة.
كنا وقتها فى العام ١٩٨٧، العام الذى توفى فيه نظمى لوقا.
طالب فى السنة الثانية الإعدادية، يأتيه أبوه بكتب لا يعرف محتواها ومضمونها، فالمهم أنها كتب، وحتمًا ما فيها سيكون مفيدًا لابنه.
كان يتردد وقتها على سوق روض الفرج بالقاهرة، ببضاعة تعينه وتعيننا على الحياة، يفرغ من عمله، ثم يتوجه إلى منطقة الفجالة حيث بقايا المكتبات، يدخل إلى واحدة منها- ترتيب القدر جعلها مكتبة غريب التى كانت الناشر الوحيد لكتب نظمى لوقا- يقول لمن يستقبله، إن لديه ابنًا فى إعدادى يحب القراءة، ويريد له بعض الكتب.
أعطاه مسئول المكتبة كتابين لمؤلف واحد هو نظمى لوقا، هما «الله وجوده ووحدانيته بين الفلسفة والدين» والثانى «محمد فى حياته الخاصة».
لم يكن أبى يثير ضجة بهذه الهدية التى كانت عندى أهم مما سواها.
كان يضعها تحت مخدتى- فهو يعود من القاهرة إلى دمياط متأخرًا- ثم يمضى، وعندما أستقبل الصباح تكون الكتب هى خير بداية ليوم جديد.
فتحت كتاب «الله وجوده ووحدانيته بين الفلسفة والدين»، فلم أفهم منه كثيرًا أو قليلًا، فنحيته جانبًا، ولم أعد له إلا بعد سنوات طويلة، لكننى توقفت عند كتابه «محمد فى حياته الخاصة» مندهشًا وربما حائرًا، وكلما قرأت زادت الدهشة وتعمقت الحيرة.
كان السؤال الذى قادنى إلى عالم نظمى لوقا الخاص، هو: كيف لكاتب مسيحى أن يكتب عن الرسول، صلى الله عليه وسلم؟، وكيف يتسلل إلى حياته الشخصية، خاصة أنى توقعت أن ما كتبه لن يخرج عن مساحة الهجوم والنقد وتتبع الثغرات والعثرات؟.
كانت الصدمة الأولى بالنسبة لى فيما كتبه نظمى فى بداية كتابه على سبيل التنبيه.
كتب يقول: مؤلف هذا الكتاب مسيحى المولد والمعتقد، وما كنت بحاجة إلى هذا التنبيه- الذى يغنى عنه اسمى- لولا أن نفرًا من الناس ذهب ظنهم إلى أن إنصاف عقيدة من العقائد لا يمكن أن يصدر إلا عن شخص يدين بالعقيدة التى يدفع عنها الافتراء، وبالتالى لا يدافع بالضرورة عن الإسلام أو ينصفه إلا مسلم، وهو ظن باطل.
أمسكت بخيط الحكاية الأول، فلا يمكن أن يكتب هذا المؤلف تنبيهه هذا إلا إذا كانت وراءه قصة، وإلا إذا تعرض لمشاكل كثيرة سابقة، وإلا إذا كان حاصره هؤلاء الذين وصفهم بأنهم «نفر من الناس» باتهامات، يحاول أن يدفعها عن نفسه، أو على الأقل يحاول تخفيف ضغطهم عليه.
على استحياء تحدث نظمى عن منهجه، ولا أنكر أننى أخذت ما قاله دون اهتمام كبير.
قال: كتبى ليست دينية فى جوهرها ومنهجها وغايتها الأصيلة، وإن عالجت أمورًا متصلة بالدين، فالغرض الأول منها هو الحث على نزاهة العقل والضمير بصفة عامة، والنظر فى سائر الأمور نظرًا موضوعيًا مبرءًا عن التحيز والتحامل، بحيث يكون التفكير الإنسانى أشبه بما يدور فى معمل التحليل الكيماوى، لا تتأثر نتيجة تحليل الدم إلا بالعناصر التى يتكون منها هذا الدم فعلًا، ولا دخل فى هذه النتيجة لأن تكون قطرات الدم لذى القربى أو لأبعد الغرباء.
تعجبت من منطق نظمى، فالكاتب الذى يقول إن كتبه ليست دينية، يبيعها أصحاب المكتبات على أنها كتب إسلامية خالصة، خاصة بعد أن جلب لى أبى بعد ذلك كتابيه «أبوبكر حوارى محمد» و«عمرو بن العاص».. وقرأت فى قائمة كتبه كتابين لهما نفس المنهج والاتجاه وهما «عمر بن الخطاب.. البطل والمثل والرجل» و«محمد الرسالة والرسول».. وهما الكتابان اللذان لم أحصل عليهما إلا بعد سنوات.
دليلى على ذلك أن أبى طلب من المسئول عن المكتبة كتبًا دينية، فأعطاه كتب نظمى دون سواه، بما يؤكد أنه يتعامل معها على أنها دينية فقط، بصرف النظر عن كل ما يقوله نظمى نفسه عن إنتاجه الفكرى والفلسفى.
لكن عجبى لم يمنعنى من مواصلة الدخول تحت جلد هذا الكاتب المجهول بالنسبة لى بالكلية.
وجدته يقول: «النزاهة الموضوعية هى أسمى منهج عقلى متاح للبشر، وهى أشق ما يكون حين يتصل الموضوع بالعواطف الشخصية، ولا سيما المعتقدات، لأن التجرد من هذه المؤثرات الذاتية جد عسير، لهذا السبب تعمدت البحث فى الإسلام، جاعلًا من هذا الموضوع نمطًا للمنهج العام الذى أدعو إليه، وليكون حجة ومثلًا على الموضوعية المترفعة عن التحيز».
شعرت بأن نظمى لوقا يحاول أن يقنع نفسه بما يفعله قبل أن يقنع الآخرين.
اقتحمنى هذا الشعور، وأنا أسمعه يقول على صفحات كتابه: إذا كان المنهج الموضوعى يسمح للدارس بغير اعتراض أن يكتب عن أحد الكواكب البعيدة، من غير أن يكون من سكانها، وعن المعادن من غير أن يكون ضربًا من الحديد أو النحاس، وعن السيارات من غير أن يكون سيارة، فأى عجب أن يكتب بهذا المنهج الموضوعى عن الإسلام من ليس فى عداد المسلمين.
لم يكن نظمى لوقا يشرح منهجه، بل كان يدافع عن نفسه، وبعد ذلك عرفت أنه ظل طوال عمره يدافع عن أفكاره دون أن ينصت له أحد أو ينصفه أحد.
وبعد سنوات طويلة تنبهت إلى قيمته أكثر، عندما أعدت قراءة مقدمة الكتاب مرة ثانية، فوجدته أوسع أفقًا وأرحب عقلًا من وضع ما أنتجه بين قوسى الإسلام والمسيحية، فقد كان ما أبدعه يحتوى الأديان جميعًا، وتوقفت عند ما قاله إنه الإنصاف النزيه أثمن فضائل الإنسان، وهو أجدر أن تصف به نظرتنا إلى الأمور كافة، بما فى ذلك الأديان التى ندين بها أو يدين بها سوانا.
حملت نظمى لوقا من يومها فى حقيبة أفكارى تلك التى أضع فيها كل ما ومن يقابلنى.
من يعجبنى ومن أنفر منه.
من أتوحد معه ومن أهرب من جواره.
أفكار وأخبار وأحداث ووقائع ومواقف وجدل واتهامات ونميمة وبراح وضيق وكتب وشخصيات وأمراض ومحاولات تعافٍ.. تأملات وحيرة وعلامات استفهام تلاحقها علامات تعجب.. حقائق وأباطيل.. حق وباطل وبينهما تضليل.. ثم نفسى التى أحملها دون أن أغفل عنها طرفة عين.
أعدت قراءة إسلاميات نظمى لوقا عشرات المرات، وكنت قد حصلت على كتابه «محمد الرسالة والرسول» من على سور جامعة القاهرة، وقتها كنت فى سنتى الأولى بكلية الإعلام.
وقعت عيناى على الكتاب الذى كان ممزقًا وبلا غلاف، وفى صفحته الأولى وجدت مكتوبًا.. «الموسوعة الإسلامية الكبرى».. «محمد الرسالة والرسول».. تأليف الدكتور نظمى لوقا.
فرحتى بالعثور على الكتاب الذى كان ينقصنى فى سلسلة إسلاميات نظمى لوقا، غطت على شغفى بمعرفة غلاف هذه الطبعة، لكن سرعان ما رأيت الغلاف عندما وجدت نسخة ثانية من الكتاب، لكن من سور الأزبكية هذه المرة، وكنت وقتها قد تخرجت فى كلية الإعلام منذ شهور قليلة.
على الغلاف زادت المعلومات، فقد كانت النسخة التى بين يدى بمقدمة كتبها كمال الدين حسين، وزير التربية والتعليم بالجمهورية العربية المتحدة، وملتزم الطبع والنشر دار الكتب الحديثة لصاحبها توفيق عفيفى عامر، ومقرها شارع الجمهورية بالقاهرة.
ما لفت انتباهى لهذه النسخة ما جاء على غلافها نصًا، وكان: «قررت وزارة التربية والتعليم تدريس هذا الكتاب بمدارسها بإقليمى الجمهورية».
أدركت أن هناك قصة كبيرة، لم أحط بتفاصيلها وقتها، لكن لازمنى سؤال مهم وهو: إذا كان كتاب «محمد الرسالة والرسول» ملعونًا ومطاردًا، فكيف يتم تقريره على طلاب المدارس فى الجمهورية العربية المتحدة التى كانت تضم مصر وسوريا؟.
وظل السؤال معلقًا.
انشغلت بنظمى انشغالًا دائمًا، حاولت تقديمه على استحياء.
كانت المرة الأولى عبر مقال كان عنوانه «الطريق إلى نظمى لوقا» ونشرته فى جريدة صوت الأمة فى حوالى العام ٢٠٠٢، لم يلتفت أحد إلى قيمة نظمى، ولم يكن ما كتبته بالنسبة لكثيرين أكثر من مقال عابر يتحدث عن مفكر له كتاب مثير للجدل، وهؤلاء كثيرون جدًا فى تاريخنا.
وقتها كنت قد تعرفت على كاتب حال موته المبكر دون أن يكون أحد مفكرينا الكبار، وهو الصديق أيمن عبدالرسول.
كان أيمن وقتها قد انتهى من إعداد كتابه الأول «فى نقد الإسلام الوضعى» للنشر، وثارت ضجة بسبب بعض آرائه وأفكاره، وكان مفاجئًا لى اهتمامه هو الآخر بنظمى لوقا.
عند أيمن وجدت كتابًا يكاد يكون مجهولًا لنظمى هو «أنا والإسلام»، كان قد وجد نسختين منه عند بائع كتب قديمة، فاشتراهما منه، حصلت على واحدة منهما تلقائيًا، فقد شعرت بأنها نسختى ومن حقى، ألست أبحث عن كل شىء يخص نظمى، إذًا فهذه النسخة رسالة من الأقدار، خاصة أن ما كتبه نظمى فى «أنا والإسلام» وهو الكتاب الذى صدر بعد ٢٥ عامًا بعد «محمد الرسالة والرسول»، أى فى العام ١٩٨٤، أجاب عن أسئلة حائرة كانت معلقة على طرف لسانى بخصوصه، ولم يستطع أحد أن يجيبنى عنها، ولن أخفيكم سرًا أن نظمى نفسه لم يطلعنى على كل شىء، فقد كان يخفى الكثير، ولا أدرى لذلك سببًا، فقد جرده الجميع من كل شىء، فمن أى شىء كان يخاف؟.
أعتقد أن هذا سره الذى دفن معه، ولن يطلع منا أحد عليه أبدًا.
كان أيمن من سكان القاهرة، أحد أبناء حى المطرية، ربما لهذا كان أكثر جرأة وأريحية وهو يبحث عن عائلة نظمى لوقا أو من تبقى منهم، حاول أن يصل إلى بيته، وكان الوصول إليه سهلًا جدًا، فقد كان عنوانه وهو ١٠ شارع ابن سينا- مصر الجديدة- لكن المفاجأة أنه عندما وصل إلى الشارع الذى عاش ومات فيه نظمى، لم يجد أحدًا يريد أن يتحدث أو يمنحه معلومة أو يدله على شىء يخص المفكر الكبير الذى كان يعيش بينهم، ويرونه يسير أمامهم ولم يستطع أيمن تفسير ذلك ولا أنا.
لم تسفر رحلة أيمن للبحث عن نظمى لوقا عن شىء اللهم إلا الرحلة نفسها، فقد وجدت عنده نفس رغبتى لرفع الظلم عن مفكر كبير.
منحنى أيمن طرف خيط جديدًا لاستكشاف عالم نظمى، قال لى: المعلومة الوحيدة التى استطعت الوصول إليها، أن ابنه تعرض لحادث طعن بعد صدور كتاب «محمد الرسالة والرسول»، ورغم أنه لم يتم الوصول إلى الفاعل، إلا أن كل المعلومات كانت تشير وقتها إلى أن الحادث كان انتقامًا من نظمى فى شخص ابنه، وهو ما جعل وزارة الداخلية تعين طاقم حراسة على منزل نظمى لعدة شهور تالية.
تركت أيمن يعيد فى الحكاية ويزيد، وفجأة سألته: «وتفتكر مين ممكن يكون حاول طعن ابن نظمى لوقا؟... وهل كان مسلم ولّا مسيحى؟».
التقط أيمن المعنى الذى أردته وابتسم.
فنظمى لوقا الذى كتب «محمد الرسالة والرسول» بحثًا عن أرض مشتركة يعيش عليها المسلم والمسيحى، أغضب بكتابه الطرفين، ولم يكن بعيدًا أنه كان لدى كل طرف منهما دافعه لينتقم منه، ولو قلت إن هذه الدوافع كانت متشنجة ومتعصبة ومتطرفة وإرهابية، سأقول لك: كانت كذلك.. لكنها فى النهاية كانت موجودة، وكادت أن تنال منه فى أعز ما يملك.. فى ابنه.
فى العام ٢٠٠٣ وتحديدًا فى شهر أكتوبر، وجدتنى مدفوعًا لفعل اعتبره البعض جنونًا.
كنت أشرف على تحرير ملحق أسبوعى يصدر مستقلًا مع جريدة صوت الأمة، وفكرت فى أن أنشر كتاب «محمد الرسالة والرسول» كاملًا فى عدد خاص من الملحق، استغرق الأمر بعض التفكير، الذى خالطه بعض من التردد، لكننى حسمت أمرى، وصدر الملحق بصورة كبيرة لقبة مسجد النبى الخضراء، وبعنوان فرعى هو «قصة الإسلام بقلم كاتب مسيحى».
تركت المساحة كاملة لكتاب نظمى لوقا، ولم أتدخل إلا بمقدمة قصيرة جدًا، اخترت لها عنوانًا معبرًا هو «معجزة نظمى لوقا».
كان هذا بعضًا مما جاء فيها: فكرت كثيرًا أن أترك المساحة كاملة لهذا الكتاب الرائع «محمد الرسالة والرسول» الذى كتبه بحب وموضوعية علمية د. نظمى لوقا، فهو يجمع كل الحوار الصاخب الذى يدور فى المجتمع المصرى عن الوحدة الوطنية والنسيج الواحد والفتنة الطائفية، ويلقى بها فى أقرب سلة مهملات، لأن العقل إذا ما حكم فى النهاية كان له حكم واحد، وأنه لا مكان بيننا لمثل هذا الكلام الفارغ، إلا إذا كان هناك من يغذيه ويريد أن يشعلها نارًا لحاجة فى نفسه أو فى نفس من يقفون وراءه.
ورغم قناعتى بترك المساحة كاملة للكتاب وما جاء فيه، إلا أنه ألحّت علىّ فكرة أرى أنها جديرة بالطرح عليكم، فنظمى لوقا كاتب مسيحى مات على مسيحيته، لكنه مع ذلك أبدع موسوعة إسلامية كبرى بدأها بهذا الكتاب، واعتبره الحلقة الأولى وحجر الأساس فى عمل كبير يتناول الإسلام وتراثه وحضارته تناولًا جديدًا.
دخل نظمى إلى هذا البحر الزاخر بميزان نزيه مستقيم، من خلال منهج عقلى نفسى إنسانى يقوم على تقديس الحقيقة بصرف النظر عن نسبتها إلى هذا الفريق أو ذاك، فكان الكتاب فى وقته وحتى الآن أصدق حملة على العصبية العمياء، وأمجد كفاح فى سبيل انتصار النزاهة وسيادة سلطان الحق والعدل والكرامة البشرية، فلا قيمة لإنسان لا قيمة للحق لديه.
وختمت ما اعتبرته تقديمًا للكتاب بما قلته بأن نظمى كان مغامرًا للغاية عندما أصدر كتابه، غضب منه المسلمون والمسيحيون على السواء، لكنه لم يهتم لأنه كتب من قاعدة عالم وباحث ومدقق وموضوعى، لا يلتفت كثيرًا لما يقوله المتعصبون فى كل الأديان الذين لا يشغلهم إلا أن ينفخوا النار لتشتعل الفتن.
ولذلك اخترت أن أهدى إعادة تقديمى لكتاب نظمى إلى كل الذين يتشدقون بالشعارات الضخمة الفخمة التى لا طائل من ورائها، فهل يقرأون.. هذا إذا كانوا يقرأون؟ أم تظل ألسنتهم تخفى ما فى قلوبهم من سواد أتعجب كثيرًا من قدرتهم على تحمله؟.
كان غريبًا ما حدث بعد ذلك، تصادف أن عدد صوت الأمة الذى صدر معه ملحق نظمى لوقا كان ضعيفًا جدًا، لكن توزيع العدد فاق كل توقع، وسألنى رئيس مجلس الإدارة: هو العدد فيه إيه، المرتجع صفر، وفيه ناس بتطلب طباعة الملحق لوحده، هو الملحق ده فيه إيه؟.
أدركت لحظتها أن ما كتبه نظمى لوقا قبل ٤٤ سنة لا يزال صالحًا للقراءة، بل هناك من سعد به، وحرص على اقتنائه.
لا أخفيكم سرًا أننى خشيت أن يكون سبب الإقبال على الملحق طائفيًا.
مسلمون يفرحون بكاتب مسيحى ينتصر لنبيهم، كما حدث عند لحظة ظهور الكتاب الأولى، لكن شيئًا من هذا لم يبدُ لى، فقد أثار الكتاب نقاشًا مفتوحًا دون تبادل اتهامات.
لم يقصر أيمن عبدالرسول فى حق نظمى لوقا، كتب عنه عدة مقالات نشرها فى كتابه «فى نقد السلطة والمثقف والإرهاب»- صدر فى العام ٢٠٠٤- كان أهم ما جاء فيها إمساكه بسبب غضب الكنيسة أو لنقل تحديدًا البابا شنودة من كتاب نظمى.
يقول أيمن: لقد عارضت الكنيسة المعنى الذى بلوره نظمى لوقا فى كتابه «محمد الرسالة والرسول»، وهو أن الإسلام وطن حضارى ينتمى إليه المسيحيون الشرقيون، فهو يخصهم كما يخص أهله الذين يتخذونه عقيدة دينية لهم.
التفسير الذى ذهب إليه أيمن عبدالرسول يمكن أن يكون مناسبًا للحالة التى كانت تعيشها مصر وقت صدور الكتاب، لكن الآن أعتقد أن أمورًا كثيرة اختلفت، وهو ما يجعلنا نتوقع تعاملًا مختلفًا مع الحالة الفكرية التى نعيد صياغتها هنا على هامش قراءة جديدة ليس لما أنتجه نظمى لوقا فى الإسلاميات فقط، ولكن مذهبه الفلسفى الذى أعتقد أنه يمكن أن يمثل حلًا لكثير مما نعانيه من مشاكل وأزمات.
لقد حاولت لفت الانتباه إلى نظمى لوقا أكثر من مرة، أعدت نشر كتابه «محمد الرسالة والرسول» عبر دار نشر خاصة فى العام ٢٠٠٦، ثم عرضت كتبه الإسلامية فى كتاب مستقل فى العام ٢٠١٠.
لكن ما أفعله الآن هو محاولة لتقديم مشروع الفيلسوف الكبير الذى ظُلم حيًا وميتًا من جديد، ربما لأنه يستحق ذلك، أو لنكن أكثر صراحة، فنحن الذين نحتاج إلى ذلك، فلا مواجهة للتعصب والطائفية والإرهاب إلا بالعقل، الذى أخذ منه نظمى لوقا وسيلة لإنصاف من يستحقون الإنصاف حتى لو كانوا خصومه، مع التمسك بموقفه ومعتقده.
وهنا يمكن أن نضع أيدينا على المعنى الأكبر الذى صاغه نظمى لوقا منذ ستين عامًا دون أن يفطن إليه أحد.
فليس معنى أن الإسلام حق، أن المسيحية باطل.
وليس معنى أن المسيحية حق، أن اليهودية باطل.
فالأديان كلها صحيحة وحقّة وحقيقية، ويمكن لأهلها أن يعيشوا وهم يشهدون لبعضهم البعض، ويقرون بعضهم البعض على ما يعتقدون.
لكن ولأن هناك من لا يريد ذلك، فقد ظل نظمى لوقا مقصيًا بعيدًا فى منطقة ظلال وريبة.
وأعتقد أنه آن الأوان لتتبدد هذه المنطقة وتزول، وتخلص لنا الفكرة التى هى بداية طريق جديد.