رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إسلاميات كاتب مسيحى «1»

محمد الباز يكتب: رد الاعتبار لنظمي لوقا

جريدة الدستور

لو كان فى بلد آخر وقت إصدار كتابه «محمد الرسالة والرسول» لأصبح أيقونة عالمية من أيقونات الإنسانية

المفكر الكبير وضع بذرة تصالح الأديان وتجاورها دون عنف ولا تعصب ولا تخوين ولا تكفير ولا قتل

دون تخطيط منى أو إرادة، وضعت الأقدار فى طريقى الدكتور نظمى لوقا.
قد يبدو الاسم بالنسبة لك غريبًا.. وحتى لو كنت تعرفه، ففى الغالب لن تزيد هذه المعرفة عن كونه الكاتب المسيحى الذى أنصف رسول الإسلام عندما أصدر عنه كتابًا اسمه «محمد الرسالة والرسول»، ودون أن تقرأ الكتاب أو تقتنيه فحتمًا ستثنى عليه، لأنه كاتب موضوعى لم تمنعه ديانته أن يكتب كتابًا منصفًا عن نبى دين آخر.
لكن ما لا تعرفه أن نظمى لوقا قصة درامية ممتدة من العام ١٩٢٠ عندما ولد فى دمنهور، وحتى وفاته فى القاهرة خلال العام ١٩٨٧.
قد تكون قصة كتابه عن النبى محمد، صلى الله عليه وسلم، أكثر فصول حياته إثارة.
لكن عندما تتأمل ما جرى له، ستتأكد أنه كان واحدًا من ضحايا البشرية الكبار، لا لشىء إلا لأنه قرر أن يكتب بموضوعية وتجرد، محاولًا أن يصنع صيغة واحدة يعيش بها البشر متجاورين ومتسامحين مهما كانت دياناتهم، وهى فيما يبدو الجريمة التى لم يغفرها له أحد لا من المسيحيين ولا من المسلمين أيضًا.
لو كان نظمى لوقا فى بلد آخر وقت إصداره كتابه «محمد الرسالة والرسول»- جرى هذا فى العام ١٩٥٩- لأصبح أيقونة عالمية من أيقونات الإنسانية، ولأصبح له أتباع ومريدون، ولقصده الكتاب والنقاد يأخذون عنه، ويروجون لما يقوله، ويجعلون مما قدمه مذهبًا روحانيًا، يصلح كعلاج لموجات التعصب والتطرف والإرهاب الذى يتقنّع بقناع الدين.
لكن ولأن زامر الحى لا يطرب كما يقولون، فقد تحول الكتاب إلى جريمة والفكرة إلى لعنة والدعوة إلى خطيئة، وبدلًا من أن تحتفى به الكنيسة طاردته وحرمته وأقصته وحجبت عنه جنتها، تلك الجنة التى لم يكن يرغب فى الخروج منها، رغم ما كتبه عن رسول الإسلام ورجالاته.
عندما توفى نظمى حملته زوجته المخلصة الدكتورة صوفى أبوطالب الكاتبة والمترجمة وبعض أصدقائه إلى الكنيسة، كى تصلى عليه صلاة الجناز، لكن كانت المفاجأة مزلزلة.
تهرب كاهن الكنيسة من الصلاة عليه، ورفض صغار العاملين فيها إدخال تابوته إليها، كانت الوجوه متجهمة وغاضبة ولاعنة... وصامتة أيضًا.
كان السؤال الحائر على لسان الدكتورة صوفى، والذى لم تتردد فى طرحه على كاهن الكنيسة والعاملين فيها: لماذا لا تصلون على نظمى؟.. لماذا تمنعون عنه الرحمة؟.
كانت الدكتورة صوفى تعرف جيدًا ما جرى، لكنها لم تتخيل أن يظل الإصرار على المنع حتى الموت، اعتقدت طبقًا للثقافة المصرية أن الموت يحسم كل الخلافات وينهيها، ويبدأ الجميع فى فتح صفحة جديدة مع الميت، فلا يحسن بنا إلا أن نذكر محاسنه، أما ما ارتكب من موبقات إذا كانت هناك موبقات، فهى متروكة إلى الله، فهو وحده صاحب الحق الأول والأخير فى التصرف فيها.
بحثت كثيرًا عن موقف الكنيسة مع نظمى لوقا، على أى أساس كان، وما مبرر حرمانه؟.
الحرمان عقوبة كنسية يمنع صاحبها من مباشرة الأسرار الكنسية السبعة، وعندما يموت لا يصلى مسيحى عليه، لأنه فى نظر الكنيسة لا يتم التعامل معه على أنه مسيحى من الأساس.
أرهقنى البحث، فلم أجد قرار المنع ولا تفاصيله وظروفه، حتى عثرت على تسجيل صوتى للبابا شنودة، بابا الإسكندرية بطريرك الكنيسة المرقسية الـ١١٧، يتحدث فيه عن نظمى صراحة.
كان البابا يعقد اجتماعًا يوم الأربعاء من كل أسبوع يقدم عظة، ويتلقى أسئلة من الحاضرين.
جاءه سؤال كان هذا نصه: ما رأيك فى كتاب يدرس فى الفرقة الأولى بإحدى كليات الحقوق- لم يحددها السائل- بعنوان بحوث فى تاريخ التشريع الإسلام السياسى والجنائى، ويستشهد مؤلفه بكتابات الدكتور نظمى لوقا الذى يؤيد الفكر الإسلامى؟.
تحدث البابا شنودة، ولم يكن كلامه إجابة فقط، بل قصة حرمان نظمى لوقا كاملة.
قال عن الأستاذ الذى يدرس هذه المادة لطلاب كلية الحقوق، إنه وأمثاله يعملون ضد الوحدة الوطنية، ولا يصح أن يكون هناك شيوخ يدعون إلى الوحدة الوطنية، وهؤلاء الأساتذة يحطمون مشاعر المسيحيين بهذا الكلام.
ترك البابا شنودة أستاذ الحقوق المجهول فى حاله، وتفرغ بعد ذلك لقصة نظمى لوقا.
قال: أما الدكتور نظمى لوقا فقد حرمته الكنيسة ومات محرومًا، فلا يصح أن يعتمد أستاذ الحقوق على كلام واحد محروم.
من كلام البابا شنودة نعرف أن نظمى لوقا تم حرمانه من الكنيسة سنة ١٩٥٩ أى فى السنة نفسها التى صدر فيها كتابه «محمد الرسالة والرسول»، فى هذا الوقت كان البابا شنودة سكرتيرًا للبابا كيرلس السادس.
عقد المجلس الإكليريكى جلسة محاكمة لنظمى، رأسها الأنبا لوكاس أسقف منفلوط الذى كان واحدًا من علماء الكنيسة، وبسكرتارية القس أنطونياس الذى أصبح البابا شنودة فيما بعد، وكان هو نفسه الذى أعد قرار الحكم بالحرمان.
يقول البابا شنودة: فى اليوم السابق لمحاكمة نظمى لوقا أرسل لنا خطابًا رديئًا يقول فيه: أنا متعجب من عقلياتكم، هل تعتقدون أننى تابع لكم، أنا مسيحى مستقل.
كانت الرسالة مستفزة فيما يبدو، حملها البابا شنودة إلى الأنبا لوكاس.
قال له: شوف يا سيدنا لا يمكن أن نعتبر إنسانًا مسيحيًا إلا إذا كان قد تعمد، وبهذا الشكل يصبح مسيحيًا، فإذا كان نظمى تعمد فهو يتبع الكنيسة التى عمدته، وإذا كان لم يتعمد من الأساس فهو بذلك لا يكون مسيحيًا، لكن لا يوجد شىء اسمه مسيحى مستقل.
كان الحكم الذى صدر على نظمى هو قطعه من الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، وعدم الاعتراف بمسيحيته بأى شكل من الأشكال.
يعود البابا شنودة إلى الحكاية، يقول: مرت الأيام حتى وصلنا إلى العام ١٩٧٢، وكان الله قد سمح بأن أتولى مسئولية البطريركية، ومر علىّ نظمى لوقا وطلب الحل، وقال لى بالحرف الواحد: مرت علىّ ١٣ سنة لم أنم ليلة واحدة، لإحساسى أنى محروم.
رد عليه البابا شنودة، وقال له: أنت يا دكتور نظمى عملت وسويت.
فقال له نظمى: أنا أؤمن بكل ما يؤمن به البابا شنودة.
حاول البابا شنودة أن يستوعب نظمى لوقا، قال له: إذا كنت تؤمن بكل ما يؤمن به البابا شنودة حقًا، فأعلن إيمانك، لأننا لو أحلناك سيأتى الناس ويسألون الكنيسة: كيف تحلون هذا الشخص الذى أنكر العقائد المسيحية؟.
لم ينكر نظمى لوقا أبدًا العقائد المسيحية، لم يكتب حرفًا يمكن أن نشم منه ذلك، وقد يكون كلام البابا شنودة وقع عليه وقع الصدمة، لكنه حاول تدارك الأمر، وقال له: يا قداسة البابا أنا شهدت لبعض رجالات الإسلام شهادة إنصاف، فقطع عليه البابا الطريق، وقال له: نحن لا نطلب منك أن تهاجم أحدًا.
كان البابا يعرف ما يريده.
قال لنظمى: أعلن إيمانك يا دكتور، لأنك ارتكبت خطية من خلال الكتب التى ألفتها ونشرت بآلاف النسخ ووزعت على المدارس والمكتبات ودخلت كل مكان، والخطية العلنية لا بد أن تعاقب عليها علنية، ولا حل منها إلا أن تظهر إيمانك مرة أخرى على الملأ.
لم يقل لنا البابا شنودة ما الذى قاله له الدكتور نظمى لوقا، لكنه ختم حكايته بقوله: ومضى الدكتور نظمى لوقا حزينًا، لأن له مؤلفات كثيرة منشورة ووظيفة كبيرة وأستاذية فى الجامعة.
حاول البابا شنودة أن يغمز ويلمز فى سيرة نظمى لوقا بعد سنوات من وفاته، فمعنى ما قاله إنه رفض إعلان إيمانه حتى يمنحه الحل خوفًا على ما حققه من مكاسب مالية كثيرة من كتبه التى ألفها، وخوفًا على وظيفته الكبيرة التى يتقلدها، وخشية على فقدان أستاذيته فى الجامعة، كان نظمى بالفعل أستاذًا للفلسفة فى جامعة عين شمس.
لقد سمعت كلام البابا شنودة عن نظمى لوقا بعد رحلة بحث طويلة، أستطيع أن أدعى أننى من خلالها عرفت هذا الفيلسوف المصرى الكبير، وهى المعرفة التى تجعلنى أستبعد إحجامه عن إعلان إيمانه حرصًا على المكاسب، ولكنه فى الغالب فعل ذلك، لأنه فى الأساس كان يعتبر نفسه مسيحيًا لم يفارق دينه، بل إنه لم يقدم على إصدار كتب تنصف رجالات الإسلام، إلا نزولًا على تعاليم المسيح السمحة التى كانت تحض على الاعتراف بالحق حتى ولو على نفسه.
لقد ظلم البابا شنودة الدكتور نظمى لوقا مرتين.
المرة الأولى عندما كان حجر الأساس فى قرار حرمانه وقطعه من الكنيسة، بحجة أنه أنكر الحقائق المسيحية، ولا أستبعد أن يكون البابا غضب لنفسه من الرسالة التى أرسل بها نظمى للمجلس الإكليريكى، باعتبارها متعالية ومتجاوزة، فكان قاسيًا عليه، فما أفهمه من كلام البابا الذى قاله بنفسه أنه قاد محاكمة نظمى إلى الوجهة التى يريدها، بتخريجة دينية بأنه ليس هناك ما يمكن التعامل معه على أنه مسيحى مستقل، فالمسيحى لا بد أن يكون ابنًا لكنيسة، وإلا فلا وجود له من الأساس.
المرة الثانية عندما تكاسل عن استيعابه حينما لجأ إليه بوصفه البابا طالبًا منه الحل، فهو كمسيحى متدين بالفعل، لا يطيق أن يكون محروما- دع عنك بالطبع الأثر الاجتماعى لعقوبة الحرمان- لكن البابا وضع شرطًا مستحيلًا، فالكاتب لم يخطئ حتى يتوب عن خطيئته، وكان يمكن للبابا أن يضم ابن الكنيسة إلى رحمها مرة أخرى، لكنه- فيما أعتقد- كان طرفًا فى معركة لم تنته فصولها بعد، وعندما جاءه نظمى تحددت جولة المعركة الأخيرة، وكان لا بد للبابا أن ينتصر على الفيلسوف بالضربة القاضية، وكانت هذه سمة من سمات البابا شنودة، الذى كان لا يرضى بالهزيمة أبدًا.
ستقول لى إن هناك ظلمًا ثالثًا تعرض له نظمى لوقا على يد البابا شنودة، فبسببه تم طرده من على باب الكنيسة وهو جثة لا تملك من أمر نفسها شيئًا، وكان يمكن أن يعفو عنه البابا فى هذه اللحظة، خاصة أنه حتمًا كان يتابع أخباره، فلم يكن البابا شنودة من هؤلاء الذين يمكن أن يخطئوا خصومهم فى حياتهم أو فى مماتهم.
سأقول لك إن الظلم هذه المرة لم يكن لنظمى الذى أصبح بين يدى الله، أمره كله متروك إليه، ولن تنفعه صلاة كاهن أو يضره امتناعه عنها.
ولكنه كان ظلمًا بيّنًا لزوجته التى كانت بلا حول ولا قوة، ولأصدقائه الذين آلمهم موقف الكهنة وخدم الكنيسة، وربما بعض أهله الذين دفعوا هم أيضًا ثمنًا كبيرًا لكتاباته ومواقفه، وربما يكون بعضهم هجره تقربًا إلى الله، أو بشكل أدق سعيًا وراء رضا الكنيسة.
لم تكن الكنيسة الرسمية وحدها هى القاسية على نظمى بسبب كتاباته التى أنصف فيها الإسلام ورجالاته.
عندما تفتش فى أرشيفه الذى لن يفى لك بكل ما تريده عنه، ستجد كتيبًا صغيرًا أصدره القمص «سرجيوس سرجيوس» اختار له عنوانًا مباشرًا هو «الدكتور نظمى لوقا فى الميزان ردًا على كتابه محمد الرسالة والرسول».
حصل القمص سرجيوس سرجيوس على شهرته العريضه كونه أول رجل دين مسيحى يقف على منبر الأزهر، خطيبًا فى الثوار «ثورة ١٩١٩»، وكان معروفًا بفصاحته وبلاغته، وولد فى العام ١٨٨٢، أى كان عمره ٣٨ عامًا عندما ولد نظمى، وكان عمره ٧٧ عامًا عند أصدر نظمى كتابه «محمد الرسالة والرسول»، لكن هذا لم يمنعه من الكتابة والتحدى والتصدى لما اعتقد أنه اعتداء على المسيحية يأتى على يد من ينتمى للكنيسة.
المفاجأة أنه لا أحد يذكر كتيب القمص سرجيوس سرجيوس ولا يلتفت إليه، أو يفكر فى إعادة طبعه، ولكن يظل كتاب نظمى لوقا هو الأبقى، ربما لأنه كانت فيه حالة من التصالح بين الأديان والتقريب بينها، وجعلها تتعايش بعيدًا عن الصراع.
الإنصاف يقتضينا أن نقول دون إخفاء إنه كان من بين رجال الكنيسة من اقتنعوا بحق نظمى لوقا فى الحل، بل حاولوا أن يساعدوه، ومن بين هؤلاء الأنبا غريغوريوس أسقف البحث العلمى- رسم أسقفًا للبحث العلمى فى العام ١٩٦٧ وتوفى فى العام ٢٠٠١- الذى جلس إلى نظمى قبل سنوات قليلة من وفاته، ونصحه بأن يكتب شيئًا يمكن أن يكون شفيعًا له عند البابا شنودة، فيفتح له الباب من جديد.
وبالفعل استجاب نظمى لوقا لنصيحة الأنبا غريغوريوس، وألف كتابًا بديعًا هو «على مائدة المسيح» ليؤكد للجميع أنه لا ينحاز للإسلام على حساب المسيحية، وأنه مسيحى المعتقد، لكن يبدو أن هذه المحاولة فشلت تمامًا، فلم يستجب أحد لها، ولم يفتح له البابا شنودة بابه، والمفاجأة أن هذا الكتاب لا يحتفى به المسيحيون، وكأنه لم يكن، وكأن ما فعله نظمى ذنب لا يغتفر.
لقد حصلت كتب نظمى لوقا على الاحتفاء الذى يليق بها، وخاصة كتاباته فى الإسلاميات، فله كتب أخرى، منها ما هو روائى ومنها ما هو شعر، ومنها ما هو مترجم، ومنها ما هو فلسفى، حاول من خلالها أن يوضح للناس مذهبه الفلسفى، الذى أطلق عليه «مذهب الفلسفة التعبيرية»، وكان يعتبر نفسه من خلاله، أول فيلسوف عربى له مذهب خاص، لم يسبقه أحد إلى ذلك، ولم يلحق به أحد كذلك.
انتصرت كتب نظمى لوقا فى الإسلاميات، وكان طبيعيًا بالنسبة لى أن تصدر هيئة قصور الثقافة التابعة لوزارة الثقافة فى أغسطس ٢٠١٤ طبعة جديدة من «محمد الرسالة والرسول»، والمفاجأة أنها أصدرت طبعة أخرى كانت ضمن سلسلة تبسيط الأدب، وأعدها للنشر محمد على سلامة.
ومن بين ما ورد فى هذه الطبعة التى تعتبر آخر طبعاته حتى الآن، أن الكتاب لمفكر مسيحى كبير، وعلم من أعلام فترة المد الثقافى فى منتصف القرن العشرين، وكان نموذجًا فى رحابة فكره وسعة اطلاعه وغزارة علمه، ولم يترك فى عقله أى مساحة لتعصب دينى.
كان هناك ما هو أكثر، فقد أشار معد الكتاب إلى أن الهدف من تقديمه للشباب هو إطلاعهم على ومضة من ومضات تراثهم الثقافى الغائب عنهم، الذى يعانى من محاولة حجبه عنهم، حتى لا يتثقفوا فيعرفوا حقوقهم وما لهم وما عليهم، وإذكاء الروح الوطنية المفقودة، فيستعيدوا صلتهم بالماضى فى صورة جميلة مشرقة يمكن أن تلهب حماسهم وتؤجج دوافعهم نحو رفعة الوطن.
ليس هذا وفقط، فقد كان الهدف من تقديم الكتاب للشباب تعريفهم بأن مصر عاشت فى قلوب أبنائها فلم يفرق بينهم اختلاف دين أو تعصب ملة، بل كان المصريون كما صورهم الكتاب نسيجًا واحدًا جميلًا متكاملًا.
حاول البعض إفساد ما فعلته هيئة قصور الثقافة بالطبع، فادعى أحدهم أن «الهيئة أصدرت كتاب (فتنة) فى طبعتين على أنه كتاب يدعو للتسامح»!.
ورغم أن علامة التعجب يجب أن تكون من عندى، لكن للأسف كانت من صاحب التوصيف الذى يعتبر فى حد ذاته فتنة، أو على الأقل يؤججها وينفخ فى نارها، فهو يعيب على الدولة أن تعيد نشر الكتاب، لأن هناك مواقع سلفية تحتفى بالكتاب باعتباره انتصارًا للإسلام، فى الوقت الذى ينصرف عنه المسيحيون، فى حالة تؤكد أنه من الصعب أن يكون هناك أى حوار بين الأديان.
هذه الآفة التى لا أعتقد أنها يمكن أن تنتهى أبدًا، وهى آفة سوء الفهم لما كتبه نظمى، كانت السبب فى ظلمه حيًا وميتًا، وهو ما دعانى لأن أكتب، ربما يكون فيما سأكتبه هنا، وهو ما سيمتد بيننا كثيرًا، محاولة لتصحيح سوء الفهم الكبير.
وعندما تسألنى: ولماذا الآن؟
سأقول لك إنه كانت محاولات سابقة بذلتها للتعريف بنظام لوقا، من حقك أن تعرفها جميعًا بالطبع، لكننا الآن فى العام ٢٠١٩، ولو كنا فى مجتمع متصالح مع نفسه لكان هناك احتفال قومى بمرور ٦٠ عامًا على صدور كتاب «محمد الرسالة والرسول» للمرة الأولى فى العام ١٩٥٩.
احتفال يليق بمقام نظمى لوقا ودوره فى وضع بذور حالة نتحدث عنها الآن، وهى حالة تصالح الأديان وتجاورها دون عنف ولا تعصب ولا تخوين ولا تكفير ولا قتل ولا استبعاد ولا إقصاء.
لقد حاول نظمى لوقا مبكرًا جدًا، لكنهم بدلًا من الاحتفاء به أبعدوه، وبدلًا من تكريمه أهانوه، وبدلًا من شكره كفروه، وبدلًا من تعميم فكرته طاردوها ولعنوها، فابتعد عنه الجميع، ولأن هذه الصورة أصبحت راسخة عن نظمى، تجد أن السلفيين والمتعصبين يحتفون به، اعتقادًا منهم أنه أنصف الإسلام لوجه الإسلام.
الحقيقة التى أسعى للتأكيد عليها هنا أن نظمى لوقا كان بكتاباته يعمل لوجه الإنسانية وحدها، لم يخن المسيحية، ولم يجامل الإسلام، وهو أمر كان عسيرًا على الفهم، وربما لا يزال، ولذلك نتحدث عنه من جديد.
قبل أن أبدأ معكم رحلتنا الطويلة مع إسلاميات نظمى لوقا وغيرها من كتاباته، سأتوقف قليلًا عند ما يمكن اعتباره من قبلكم أمرًا عابرًا.
فكل ما أريده أن ترد له الكنيسة اعتباره، أن تصدر شهادة بحله، ستقول لى وما الذى يمكن أن يستفيده من هذه الشهادة بعد موته؟، أقول لك على الأقل ستكون شهادة لفكره أنه لم يكن منحرفًا، ثم إن المفكرين من أمثاله، لا يهمهم تقدير ذواتهم بقدر ما ينشغلون بتقدير ما يبدعون، فهل تتحرك الكنيسة وتفعلها؟.. أتمنى ذلك ولا أخفيكم أننى أطمع فيه أيضًا.
وكل ما أرجوه من الدولة المصرية، أن ترد لهذا المفكر والفيلسوف الكبير اعتباره، وأشكال ذلك كثيرة، وأعتقد أننا لو أردنا أن نفعل ذلك، فلن نعدم له الوسيلة، المهم أن نقرر، فأمثال نظمى لوقا لو كانت الأبواب فتحت لهم ومهدت، لكنا تجاوزنا كثيرًا من الشرور والآثام والأخطاء، ولما كنا دخلنا حربًا شرسة على من يملك الله، رغم أن الله فعليًا لنا جميعًا.