رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ولى ومريد «1»

الحلاج.. أمير الأولياء


فى زمن بعيد وقع تحت يدى كتابٌ عن ولىّ من أولياء الله اسمه أبوعبدالله الحسين بن منصور، الشهير بالحلاج، فإذا بالكتاب يهوى به إلى حُفر النار، ويقدمه للقراء باعتباره أكبر الزنادقة فى تاريخنا، والحق أننى تعجبت وقتها من الذى نسبه الكاتب للحلاج، فقد أورد أن الحلاج كان يسير بين الناس قائلا أنا الحق، فإذا سأله الناس: ما الذى فى الجُبة التى ترتديها يا حلاج؟ والجُبة هى العباءة التى يرتديها الرجل فوق ثيابه، فكان يقول لهم: ما فى الجُبة إلا الله.
كيف ترى الله؟
أخذنى العجب، كيف يصل أحد الناس إلى هذه الدرجة إلا إذا كان زنديقًا أو كافرًا، فإذا أحسنتُ الظن فيه قلتُ إنه كان مجنونًا، ولكننى تراجعت عن اتهامه بالجنون بعد أن عرفت أنه كتب العديد من الكتب، وأن له عشرات القصائد، والمجانين لا تكتب الكتب ولا تنظم الأشعار، حينها وقع فى ظنى أنه من عبدة الشيطان. ثم قرأتُ بعد ذلك كتابًا آخر عنه، فإذا بالكاتب يرتفع بالحلاج إلى أعلى وأرقى الدرجات، حتى إنه قال إن الحلاج هو الوحيد الذى وصل إلى درجة الإنسان الكامل من غير أن يكون رسولًا ولا نبيًا، فلم تعجبنى تلك المبالغة، ولم أستطع تأويل العبارات المنسوبة للحلاج على أى وجه من أوجه التأويل، فتركت الأمر برمته، عازمًا على ألا أعود للحلاج مرة أخرى.
وفى نفس الزمن البعيد أمسكت مجموعة قصصية لتوفيق الحكيم اسمها «أرنى الله» وقرأتها، ثم توقفت عند قصته الأولى فى المجموعة، وهى قصة أرنى الله، وكانت القصة تدور حول رجل راشد وعاقل طيب السريرة، كان يحكى لابنه الصغير عن الله، فقال له ابنه فى أحد الأيام: إنك تتحدث كثيرًا يا أبى عن الله، أرنى الله يا أبى. ولكن الأب الذى اعترته الحيرة قال لابنه، كيف أريك الله يا بنى وأنا لم أره، فقال الابن: اذهب يا أبى وابحث عن الله لتره، ثم ترينى إياه، لم يُرد الأب الطيب أن يكسر خاطر ابنه، فخرج يُحدِّث الناس عن رغبته فى رؤية الله، ولكن الناس سخروا منه، أما علماء الدين فقد أنكروا عليه سؤاله، وردوا عليه بما يعرفونه من النصوص المحفوظة، فلم يجد عندهم بغيته، إلى أن ذهب لأحد الشيوخ فقال له الشيخ: ليس لك عندى إجابة، إلا أن هناك رجلًا من أولياء الله يعيش فى أقصى المدينة، هذا الرجل لا يسأل الله شيئًا إلا استجاب له، فاذهب إليه واعرض عليه حاجتك، وذهب الرجل الطيب للناسك وقال له: أريدك أن ترينى الله، ولكن الناسك قال له: إننا لا يمكن أن نرى الله بأدواتنا الجسمانية، فليس البصر قادرًا على تلك الرؤية، ولا القلب قادرًا على ذلك، ثم ضرب له مثلًا: أنت تستطيع أن تضع إصبعك فى كأس صغيرة من الماء لتصل إلى قاعه، ولكن هل إذا وضعت ذات الإصبع فى البحر تستطيع أن تصل إلى قاعه؟ فعاد الرجل يسأله: ولكن كيف أرى الله؟ رد عليه الشيخ بأنك سترى الله إذا تكشف هو لروحك، فسأله: وكيف يتكشف لروحى؟ قال الناسك: إذا ظفرت بمحبته، فطلب منه الرجل أن يدعو له الله لكى يظفر بمحبته، فرد عليه الناسك: لا يستطيع كيانك كله أن يظفر بمحبته، فأخذ الرجل ينزل بأمنياته قائلًا: إذن نصف محبته؟ لن تستطيع، جزء صغير من محبته؟، لن تستطيع، إذن ذرة من محبته؟ لن تستطيع، وانتهى الحوار بأن سأل الناسكُ اللهَ أن يهب هذا الرجل نصف ذرة من محبته، نصف ذرة فقط!.
فماذا حدث للرجل الطيب؟ دخلت قلبَه نصفُ ذرة من حب الله، فذهل عن نفسه، وغاب عن وجوده، وهام فى الطرقات لا يتكلم مع أحد، ونسى ابنه وأسرته، وعندما عثرت عليه أسرته لم يشعر بوجودهم حتى إن الناسك الذى دعا له قال لهم: انظروا، كيف أن نصف ذرة من محبة الله دخلت قلبه فلم يتحملها عقله، ولم يقو عليها قلبه، والله لو قطعتموه بمنشار فلن يشعر. فجرى فى خاطرى: هل كان الحلاج مثل هذا الرجل، والله لو كان الأمر كذلك لكان حريًا بى أن أعيد قراءة ما وصل إلينا من سيرته وكلماته.
ومنذ زمن بعيد أيضا أمسكتُ مسرحية مأساة الحلاج للشاعر صلاح عبدالصبور، وعشتُ مع الحلاج وهو فى حالة الوعى، وقرأتُ قلبَه وهو فى حالة الطمس أو الغيبة، والطمس أو الغيبة من مصطلحات الصوفيين، ويقصدون بها أن الزاهد الناسك الولى إذا فاض حبُ الله فيضًا فى قلبَه غاب عن الوجود، وغاب عن نفسه، وقد يصل إلى درجة عدم معرفة نفسه، وتذكرت قصة أرنى الله، أكَتبَ الحكيم قصته متأثرًا بحالة الوجد التى كان فيها الحلاج؟ إذ لم يعرف تاريخنا ناسكًا أو عابدًا أو وليًا مثل الحلاج فى فيوضاته، كان الأولياء يعيشون حالة الوجد والعشق الإلهى فى صمت، أو فى أقل بيان، ولكن الحلاج فاض منه الحبُ واجتاحت قلبَه أمواجُه فلم يستطع الصمت، ولمَّا كانت كلمات اللغة لا تستطيع وصف الله، فهل تستطيع وصف ما لا يوصف؟! ما كانت اللغة إلا محدودة تُعبِّر عن محدود، فإذ استخدمها المحدود ليُعبِّر عن اللامحدود عجز عن البيان، وقد فتح لى صلاح عبدالصبور باب معرفة الحلاج من جديد حينما قال فى مسرحيته على لسان الحلاج: عشنا حينًا فى دار الخوف، نتكتمُ بين الأضلاع سرًا نخشى أن تسرقه الأسماع، لكن المسك انسكب فى قلب الحلاج فذاع.
وحينما انسكب الحب فى قلب الحلاج أصبح لا يرى إلا الله، وحين سأله أحدهم: أريد أن أعرف الطريق إلى الله، فقال الحلاج: «الطريق يقتضى وجود اثنين، وليس مع الله أحد»، فإذا غم الأمر على الناس ولم يفهموا مقالته فكان يقول لهم: من لم يفهم بالإشارة لن يفهم بالعبارة، ومن هنا يجب أن نعرف أن لغة الصوفيين ومصطلحاتهم لها مدلولات أخرى، فإذا حاكمناهم بالدلالات التى نعرفها ظلمناهم وكفَّرناهم ورجمناهم، فعلى سبيل المثال الغيبة عندنا هى أن نغتاب أحدهم ونذكره فى غيبته بسوء، والغيبة عندهم هى أن تغيب عقولهم وقلوبهم عن أنفسهم وعن الدنيا وما فيها، ومما يروى فى ذلك عن ذى النون المصرى، وهو أحد أعلام التصوف فى القرن الثالث الهجرى، أنه أرسل واحدًا من تلاميذه إلى صوفى آخر هو أبواليزيد البسطامى، وعندما ذهب هذا التلميذ إلى دار أبى يزيد تقابل معه وقال له: أريد أبا يزيد، فرد عليه أبويزيد: من أبويزيد هذا؟ أنا أيضًا أبحث عن أبى يزيد، فخرج التلميذ وهو يقول لقد جُن الرجل، ولكن تلميذ ذى النون المصرى لم يكن يعرف أنه تقابل مع أبى يزيد وهو فى حالة الغيبة، وليس فى حالة الحضور.
كانت هذه هى مشكلة الحلاج فقد كانت غيبته أكثر من حضوره، وعندما لم يتحمل الحلاج وطأة الحب على قلبه أخذ يتحدث عنه ويخبر الناس به فكان ما كان، وكانت مأساة الحلاج، تلك المأساة التى سنرويها فى الحلقة القادمة.